الخلاف الذي يستمر منذ عدة أشهر بين "أمازون"، أضخم شركة توزيع للكتب على الإنترنت، و"هاشيت" رابع أكبر دار نشر في الولايات المتحدة الأميركية، وفرع شركة "لاغاردير" الفرنسية، حول أسعار بيع الكتب الرقمية تحول مؤخراً إلى حرب مفتوحة، تعكس الآفاق الملتبسة لمستقبل صناعة الكتاب ونشره وتوزيعه على المستوى العالمي، مثلما تعكس أيضاً المخاطر التي تهدّد وضعية الكتّاب أنفسهم. هؤلاء دخلوا بقوة في خط النزاع بين "أمازون" و"هاشيت" ونقلوا النزاع التجاري بين الشركتين إلى دائرة النقاش العام بنشرهم رسالة مفتوحة إلى مدير شركة "أمازون" في صحيفة "نيويورك تايمز".
وبسرعة تحوّلت هذه الرسالة إلى عريضة وقعها أكثر من 900 كاتباً، من بينهم العديد من النجوم والمشاهير مثل ستيفين كينغ وبول أوستر وجوناتان ليتل وجون غريشام وجونوت دياز.. وحذّر هؤلاء شركة "أمازون" ومديرها العام جيف بيزوس من أن "تُجار الكتب لا يحق لهم بأي وجه كان، أن يعرقلوا بيع الكتب أو منع وثني القراء عن شراء كتاب بعينه". وذكّر الموقعون "أمازون" بأن الكتّاب آزروها عدة مرات في السابق أثناء تعرّضها للمضايقات وطلبوا من الشركة أن "تتوقف عن تهديد وضعية الكتّاب الذين بنت على ظهورهم نموذجها الاقتصادي". واللافت أن الموقعين في غالبيتهم الساحقة ليسوا من كتّاب "هاشيت"، ما يعكس وعي هؤلاء بأن هذا النزاع يتجاوز بكثير الجانب التجاري، ويمس بشكل جوهري مستقبل الكاتب ووضعه الاقتصادي.
تعود جذور هذا النزاع إلى الربيع الماضي، حين قرّرت "أمازون" التضييق على مبيعات إصدارات "هاشيت" عبر موقع "أمازون" بأساليب ملتوية. وذلك من خلال المماطلة في تسجيل الطلبيات وإطالة مدة التسليم لعدة أسابيع وتشجيع الزبائن على اقتناء كتب أخرى بأثمان مغرية. والهدف المطلوب هو إرغام "هاشيت" بالقوة على خفض أسعار إصداراتها الرقمية. والواقع أن "أمازون" تحاول منذ سنوات تخفيض أسعار الكتب الرقمية، ووضع تسعيرة مخفضة وموحّدة للبيع عبر الإنترنت لا تتجاوز 10 دولارات، في حين أن المعدل الحالي لثمن الكتاب الواحد يتراوح بين 14 و20 دولاراً.
ومنذ بداية النزاع اتخذت "أمازون" موقف المدافع عن مصالح القراء والكتّاب ضد ما تسميه "المنظومة الثقافية" متمثّلةً في التحالف بين دور النشر والمكتبات والكتّاب ذائعي الصيت. وفي بلاغها الأخير أعادت الشركة التأكيد على فلسفتها التجارية بكل وضوح: "إن أردنا بيئة ثقافية سليمة علينا أن نكافح من أجل تخفيض أثمان الكتب". وبلغ الأمر بالمدير العام لـ"أمازون" جيف بيزوس حد نشر البريد الالكتروني لمدير هاشيت مايكل بيتش داعياً القراء إلى مراسلته ودعوته لتخفيض أسعار بيع الكتب.
ولتدعيم موقفه استشهد جيف بيزوس بالكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل الذي دعا في الثلاثينيات من القرن الماضي الناشرين إلى التكتل من أجل "قتل" كتب الجيب الرخيصة لأنها تشكّل خطراً على صناعة الكتاب. وفي النهاية اتضح أن أورويل كان على خطأ باعتبار أن كتب الجيب لم تهدّد لا الناشرين ولا الكتّاب، بل ضخّت حيوية اقتصادية في سوق الكتاب عادت بالنفع على جميع الفاعلين المعنيين.
ورغم أن "أمازون" تتذرع دوماً بأنها تناضل من أجل سواد عيون القراء ودمقرطة القراءة، إلا أن أحداً لا يصدّق ذلك؛ فالقارئ بالنسبة لها هو زبون بالأساس، قبل أن يكون قارئاً. كما أنها، وهي التي تتحكّم حالياً بنسبة 65 في المائة من مبيعات الكتب الرقمية في السوق الأميركية، كما يراها كثيرون، لا تنشد سوى مضاعفة أرباحها. فتخفيض أسعار الكتب بنسبة خمسين في المائة سيدرّ على أمازون أرباحاً هائلة، في حين أن دور النشر ستجد نفسها خاسرة على كل المستويات، وستضطر إلى تعويض خسارتها بتقليص هامش الربح المتاح للكتّاب، أو عدد الكتب المنشورة.
احتجاج الكتاب الأميركيين على "أمازون" انتقلت عدواه إلى أوروبا حيث بادر 1188 كاتباً ألمانياً إلى نشر عريضة ضد "أمازون" تطالبها بالكف عن التضييق على مجموعة "بونييه" الألمانية للنشر. ذلك أن "أمازون" انتهجت الطريقة نفسها التي استعملتها ضد "هاشيت" وراحت تماطل في تسجيل الطلبيات وإطالة مدة التسليم لعدة أسابيع في ما يخص إصدارات "بونييه". كذلك فعلت مجموعة من الكتّاب الفرنسيين الذين آزروا زملائهم الأميركيين عبر وسائل الإعلام مدعومين بوزيرة الثقافة أوريلي فليبيتي التي نددت بأساليب "أمازون" ضد "هاشيت"، وذهبت حد مطالبتها "أمازون" بتسديد الضرائب في فرنسا.
على أيّ حال، حسنةُ هذا النزاع الذي فجرته "أمازون" تكمن في دفعه الكتّاب إلى التراص والتكتل للدفاع عن مستقبل الكتاب في بادرة غير مسبوقة، إذ أن الكتّاب الأميركيين، بشكلٍ خاص، نادراً ما يتوحدون حول قضية ما. كما أن هذه القضية أجبرتهم على الإدلاء برأيهم في النقاش العام حول قضية مستقبل الكِتاب.