كلُّ اسم هنا يعني شيئاً، لكنّ بعض الأسماء قديمة جداً فنُسيت معانيها. قد تعني دمشق في الآرامية "التراب الأحمر"، وربما كانت تعني "قِربة النبيذ" لدى الإغريق والرومان. تسمية أخرى متداولة محلياً اشتُقت من "دم الشقيق"، لأن قابيل قتل هابيل في مكانٍ ما من الأرجاء المجاورة. يقع مزار هابيل في قمة قاسيون، والقبر في داخله عملاق الحجم لأن رجال تلك الأيام كانوا عمالقة حقاً. والعشق هو فرط الحب، وهكذا ثمة احتمال آخر لأصل الاسم هو "دم العشق".
المدينة في تجويف إناء أسفل الجبال، وتترامى عبر السهل، وتزحف إلى أعالي المنحدرات، كتلةً كبيرة من المساكن، أبراجاً بيضاء ورمادية وبنية تعلو وتنخفض. واجهاتُ رخام وقبابٌ وأسطحة قرميد أحمر. حمام يحتشد في أسراب مرفرفاً ويحطّ على أعشاش السطوح.
أزقةٌ مغلقةُ المصاريع، متاهات، جدران عالية من ضوضاء السيارات. عالياً فوق هذه الجدران حلّقْ وانظرْ تحت.
سهامٌ من مصابيح ملونة تشير إلى محلات الشواء؛ شاشاتُ تلفزيون تومض عبر النوافذ المفتوحة، في المكتب، في الدكان، أو على الأرصفة حين يكون الطقس دافئاً؛ شاشات مليون هاتف جوّال (يملكها جميعاً الشخصُ نفسه)، تتحرك بمستوى الرؤوس، أو في الأحضان، أو على السرير؛ والصحون اللاقطة؛ ومقاهي الإنترنت.
محلات المثلجات، الحدائق العامة، العوائل الكريمة البدينة التي تفصص البذور. البنوك، الصرّافون، مكاتب الاستيراد والتصدير. سيارات الأجرة والسرافيس. رجال في زي موحد. رجال يدخنون السجائر.
عشاق، متزوجون، جمهرةٌ من راهبات متجهمات في محل أزهار يبيع باقاتٍ سريالية الحجم، محلٌ ضيق لتاجر بسطرمة، تاجر بُنّ في بنايةٍ لائقة، أضِفْ مطحنته وأضِفْ غبارَ القهوة، وصفٌّ من محلات الألبسة، كلها للفتيات، واجهاتها نيون كلّها أزرق ووردي وذهبي، أغنية آر أند بي أميركية Do Me You Do Me You Can Do Me ترجُّ الرصيف، نساء يضايقهن الأطفال محجباتٌ ويلبسن الأردية الطويلة يعبرن تحت مكبرات الصوت، أمام صاحب محل سيديهات ملمَّع الشعر مصفَّفه وراء زجاج مدخّن، ثم باعة محلات الأحذية بأباريق الشاي والابتسامات، تتوالى باباً لصق باب، جدران من صناديق الأحذية تعلو، وبين الجدران: متاهات.
ساحة مركز المدينة. الفنادقُ المواخير، الراقصات النَوَريّات. البدو يعطفون على كؤوس الشاي، لا يزال بعضهم يضفرون جدائلهم، أخاديد ثلّمتْ بها الريح وجناتِهم. جدران من الأقفاص في سوق الطيور، وبين الجدران: متاهات.
كذلك ألقِ بالاً إلى ما لم يكن أو ما لن يكون. حفرٌ لم تُردَمْ، هياكل ما بُنيت، مواسير شبه منسية، ثغرات. هدم غير محسوب، إنشاءات من دون مخطط، منازل عشوائية لم تصِرْ بيوتاً، ومنازل أخرى غائبة موجودة على الورق. ثقوب طلقات لم يجمعها الفرنسيون. نهرٌ أصبح ممشى من الإسمنت المسلح، نفقاً ومستنقعاً آسناً. بساتين مبتورة الجذوع، مخنوقة، مسوَّرة.
ألف مليون كيس نايلون.
صِبيةٌ موشومون، رجال بسواعد مشعرة، أقدام برتقالية تهتزّ بعضها إلى جوار بعض في صفوف المصلّين في مسجد عند الزاوية.
الفنادق الجديدة الفخمة في المدينة القديمة، الخانات والقصور، المطاعم: بعض من ألذّ العشاءات في الشرق الأوسط، في العالم.
الحشد. يلتئم ويتفرّق، يتجمهر ويتبعثر. على عجل.
شبان يبدؤون حيواتهم، يعانون، يحملون الكتب، يقعون في الحب، يشعرون بأنهم محبوسون، يزرّرون عيونهم ليروا طريقاً يجنون عبره بعض المال. شبان في منتصفات أعمارهم يتآكلهم الطموح والفشل، وأولئك المسحوقون بالعار يزرّرون عيونهم أيضاً ليروا طريقاً يجنون عبره بعض المال. العجائز يشتكون أو ييأسون أو يرضون أو يأملون، لا يزالون يزرّرون عيونهم ليروا طريقاً من أجل أبنائهم وأحفادهم يجنون عبره بعض المال. العجائز القانعون بشيخوختهم. العجائز المصلُّون.
في الزحام امرأة تعضُّ شفتها إلى أن تدمى لتمنع نفسها من الصراخ.
عبق الجنس. عبق الياسمين والمازوت والغبار.
فوحُ خَبزِ الخُبز. دوائر ساخنة من الخبز مكوَّمة خارج الأفران، أو ملمومة في أكياس نايلون شفافة لتبني جدراناً، وبين الجدران: متاهات.
فندق الشام والفصول الأربعة. دور السينما والمراكز الثقافية. الملاعب والمسابح. الأبراجُ السجون. المآذن وذروات الأبنية.
الحيّ الشيعي والحيّ المسيحي. المخيمات الفلسطينية. الناحية الدرزية. الأكراد المكدَّسون على السفح الذي يحمل اسمهم منذ عهد صلاح الدين الأيوبي.
الجيوب العلوية التي تتقدم صوب المدينة.
سائح، متغافل عن توترات الحاضر، يقصدُ التمشّي عبر حارة اليهود.
جبال نصلت في الشمس، أذْوَتها الرياحُ القارسة، قوّضتها رشقاتُ المطر، غصّتْ بتكرار الثلوج، وكلّستها مؤخراً أربعة عقود من الجمود.
الألوان على الجبل مرهونة بالغيم، بمواقيتِ النهار، بموضعِ الشمس. وردية، برتقالية، حمراء، بيضاء، سوداء. لون التلوث البني معلّقٌ ولا يُرى إلا من بعيد. ثم هواء يتخلخل في كل اتجاه، فوق الجبال والهضبة والسهل المقفر، هواء رقيق وجاف، مادّةُ الملائكة.
شيء ما مضطرب في الجو يشي بوصول اللحظة. لحظة ستبقى.
تحت السماء، فوق دمشق: الفرقة الرابعة متوارية نسبياً. المدفعية وراء المتاريس. مدافع ضخمة مثبتة في الجبل. القوات الإسرائيلية على قمة جبل الشيخ، بذروته المكتسيةِ ثلجاً في المدى المنظور. وأربعة ملايين سوري، تحت، في المدينة.