"بَالاكْ... حَيْد بَالاكْ... أعْندَاك راسك .... بالاك ... "، ما من زائر لمدينة فاس، أو فاس البالي إلا وقد سمع هذه العبارة التحذيرية، مرارا، والتي تطالب بإفساح الطريق، متبوعة بموكب من الدواب محملة بالأمتعة أو أحد كبار السن أو خاوية بعد أن أفرغت حمولتها. هذه هي فاس "وكُلْشِي فِفاس" كما يردد أهلها وعشاقها.
من يتجول في هذه المدينة التاريخية، وخاصة فاس البالي أو "لَمْدينة" القديمة ، بين دروب أحياء العشابين أو أسواق القِسارِية بكل أنواعها، يستوقفه جمال ضريح المولى إدريس أو عراقة جامعة القرويين، وصوامعها، أوالمدرسة الأندلسية والمدرسة البوعنانية والمدرسة المرينية، أو نقش على"السْبًالَة" نسبة لسقي عابر السبيل أو النافورة الفاسية الأندلسية ينساب منها نبع بارد لم يتوقف منذ قرون.
هي متحف تاريخي توقف الزمن فيها منذ أكثر من ألف عام، كل شيء كما كان، وكل ركن فيها يروي قصصا جميلة من الزمن الماضي. هنا ستحس بالتاريخ يناديك من نوافذ بيوتها العتيقة ذات الأبواب الكبيرة والعالية، ملمس جدرانها الخشن التي بنيت في القرن الثاني للهجري تخبرك عن قصص العظماء والسلاطين والملوك والعلماء والمفكرين والمخترعين والرحالة الذين نشأوا، أو مروا، أو دفنوا بها، مدينة رغم الإهمال وهجْر أبنائها لها لا تزال تحتفظ بتاريخها بكل عنفوان حسناء مُعَمِرة لم يبد الزمن كل ملامح جمالها.
اقــرأ أيضاً
فاس أو مدينة "أفوس"، اسمها القديم، كانت ولا تزال مدينة تفاجئ الزائر ببساطتها تارة، وشموخها تارة، وألغازها تارة أخرى، فهي التي أعطت حق الحياة لكل من يعيش على أرضها، فيها لم تكن المرأة قديما تحتاج لجمعية أو منظمة كي تساوى بالرجل، هي التي صححت مفهوم الغباء الذي صاحب الحمار منذ القدم، في كل العالم العربي.
وأثبتت عبر مر الزمن أن هذه الدواب ربما تكون أذكى من بعض البشر. فرضت هندسة أروقتها الضيقة القديمة التي لا تزيد عن متر أو متر ونصف متر عدم دخول السيارات الحديثة إليها، فاستعانت بالحمير وأحيانا قليلة بالبغال في نقل البضائع بين الأزقة وتوزيعها على الحوانيت والمحلات والبيوت، ونقل النفايات. فترى تلك الدواب مسافرة بسهولة بين أزقة المدينة المتشعبة، وهي مصطفة واحدة وراء أخرى وسط المارة دون أن تصطدم بأحدهم، ودون الاعتماد على مؤشر خريطة غوغل كما هو الحال لدى بني البشر.
وكأنها تتحدى ذكاء تقنية الشبكة العنكبوتية وأقمارها الاصطناعية عالية الذكاء، في تحديد مسارها والوصول لغايتها، بالاستعانة بصوت ونحنحة صاحبها الذي لا يبذل جهدا كبيرا في توجيهها سوى كلمتي "بالاك، حَيًد بالاك"، منبها المارة لوجود الدواب خلفها أو بجانبها.
اقــرأ أيضاً
قد تمتد رحلتها أحيانا ساعة أو أكثر ذهابا وأخرى إيابا، لكنها تعرف أين تقف ومتى تستمر في المشي وأين تذهب لاحقا دون دليل أو خارطة طريق، تمر ورأسها منحن احتراما لعظمة التاريخ من حولها ولمن رسموه ممن مروا من نفس الطريق الذي تسلكه كل يوم، ذاهبة لعملها دون أن تخدش جدارا، أو تدهس بضاعة علقت على باب دكان أو وضعها بائعها على الأرض، أو طفلا متهورا اصطدم بها راكضا.
ما عاد يثير الفضول منظر عشرات الحمير والبغال المحملة بالسلع والبضائع، وبعضها يصعد العتبات الإسمنتية التي تأقلمت معها وتعبرها دون مشكلات، وهو أمر يصعب في كثير من الأحيان على المارة العاديين.
صاحب محل بيع "الخليع" أو اللحم المجفف، والحلويات الفاسية القديمة، محمد برادة، يقول لـ "العربي الجديد": إن للحمير فضلا كبيرا على أهل المدينة القديمة، فبدونها لا يمكن للحركة التجارية أو الحرفية أن تنتعش في هذا المكان من المدينة، لصعوبة نقل السلع في الدروب الضيقة".
ففي أحياء مثل "الرصيف"، و"البطحاء"، و"الطالعة الصغرى"، و"الطالعة الكبرى"، و"بوجلود"، و"باب الكيسة" و"باب الفتوح"، وفي كل موقع من فاس البالي، يجد الزائر أن معظم دروبها وأزقتها الضيقة لا تتيح المرور إلا لشخصين بحد أقصى، وحيثما ذهب سيلحظ الحضور للحمير والبغال في دورة الحركة التجارية.
تجوب الحمير فاس البالي متنقلة بين بواباتها الـ14 الضخمة وسط الحرفيين التقليديين وهم يدقون في الرواق تحفة فضية أو يثبتون خيطا لقفطان تقليدي غير مبالين لزائر فضولي، أو حِرَفِي مدبغة الجلود الشهيرة "شوارة" القديمة التي حافظت على أسلوبها التقليدي الذي كان يستخدم منذ مئات السنين.
وكما هو حال أهل المغرب الذين حافظوا وبقوة على عاداتهم، يقول حرفي "تخرازت" أو صانع أحذية ميلود السادني لـ "العربي الجديد": "إن الحمير مهمة جدا في حياة أهل فاس البالي ووجب الاهتمام بها والمحافظة عليها، هي أهم من الرزق أحيانا، مضيفا "نحن لا نريد تغيير هذا الأسلوب من الحياة لقد نشأنا عليه وتعودناه، ولا نريد استبداله بسيارات تلوث المكان وتحدث الضجيج وتقتل المارة، إضافة لأسعارها المرتفعة".
لم تحافظ مدينة فاس على الحركة التجارية للدواب فحسب بل باتت نافذة مشرعة على التاريخ في أوجه كثيرة وجمعت مزيجاً بين القدم والحضارة والعلم والفن والعمارة والموسيقى. وضع حجر أساس هذه اللوحة الجميلة، أبناؤها إدريس الثاني وأخواله الأمازيغ منذ ما يزيد عن 12 قرنا، واستقطبت سكانها من الأندلسيين والقيروانيين، واليهود، والمسيحيين، والأفارقة، ولعبت على مدى تاريخها، دور مدينة انفتاحٍ وتعايش ٍديني، واستحقت لقب" كُلْشِي فِفاس".
من يتجول في هذه المدينة التاريخية، وخاصة فاس البالي أو "لَمْدينة" القديمة ، بين دروب أحياء العشابين أو أسواق القِسارِية بكل أنواعها، يستوقفه جمال ضريح المولى إدريس أو عراقة جامعة القرويين، وصوامعها، أوالمدرسة الأندلسية والمدرسة البوعنانية والمدرسة المرينية، أو نقش على"السْبًالَة" نسبة لسقي عابر السبيل أو النافورة الفاسية الأندلسية ينساب منها نبع بارد لم يتوقف منذ قرون.
هي متحف تاريخي توقف الزمن فيها منذ أكثر من ألف عام، كل شيء كما كان، وكل ركن فيها يروي قصصا جميلة من الزمن الماضي. هنا ستحس بالتاريخ يناديك من نوافذ بيوتها العتيقة ذات الأبواب الكبيرة والعالية، ملمس جدرانها الخشن التي بنيت في القرن الثاني للهجري تخبرك عن قصص العظماء والسلاطين والملوك والعلماء والمفكرين والمخترعين والرحالة الذين نشأوا، أو مروا، أو دفنوا بها، مدينة رغم الإهمال وهجْر أبنائها لها لا تزال تحتفظ بتاريخها بكل عنفوان حسناء مُعَمِرة لم يبد الزمن كل ملامح جمالها.
فاس أو مدينة "أفوس"، اسمها القديم، كانت ولا تزال مدينة تفاجئ الزائر ببساطتها تارة، وشموخها تارة، وألغازها تارة أخرى، فهي التي أعطت حق الحياة لكل من يعيش على أرضها، فيها لم تكن المرأة قديما تحتاج لجمعية أو منظمة كي تساوى بالرجل، هي التي صححت مفهوم الغباء الذي صاحب الحمار منذ القدم، في كل العالم العربي.
وأثبتت عبر مر الزمن أن هذه الدواب ربما تكون أذكى من بعض البشر. فرضت هندسة أروقتها الضيقة القديمة التي لا تزيد عن متر أو متر ونصف متر عدم دخول السيارات الحديثة إليها، فاستعانت بالحمير وأحيانا قليلة بالبغال في نقل البضائع بين الأزقة وتوزيعها على الحوانيت والمحلات والبيوت، ونقل النفايات. فترى تلك الدواب مسافرة بسهولة بين أزقة المدينة المتشعبة، وهي مصطفة واحدة وراء أخرى وسط المارة دون أن تصطدم بأحدهم، ودون الاعتماد على مؤشر خريطة غوغل كما هو الحال لدى بني البشر.
وكأنها تتحدى ذكاء تقنية الشبكة العنكبوتية وأقمارها الاصطناعية عالية الذكاء، في تحديد مسارها والوصول لغايتها، بالاستعانة بصوت ونحنحة صاحبها الذي لا يبذل جهدا كبيرا في توجيهها سوى كلمتي "بالاك، حَيًد بالاك"، منبها المارة لوجود الدواب خلفها أو بجانبها.
قد تمتد رحلتها أحيانا ساعة أو أكثر ذهابا وأخرى إيابا، لكنها تعرف أين تقف ومتى تستمر في المشي وأين تذهب لاحقا دون دليل أو خارطة طريق، تمر ورأسها منحن احتراما لعظمة التاريخ من حولها ولمن رسموه ممن مروا من نفس الطريق الذي تسلكه كل يوم، ذاهبة لعملها دون أن تخدش جدارا، أو تدهس بضاعة علقت على باب دكان أو وضعها بائعها على الأرض، أو طفلا متهورا اصطدم بها راكضا.
ما عاد يثير الفضول منظر عشرات الحمير والبغال المحملة بالسلع والبضائع، وبعضها يصعد العتبات الإسمنتية التي تأقلمت معها وتعبرها دون مشكلات، وهو أمر يصعب في كثير من الأحيان على المارة العاديين.
صاحب محل بيع "الخليع" أو اللحم المجفف، والحلويات الفاسية القديمة، محمد برادة، يقول لـ "العربي الجديد": إن للحمير فضلا كبيرا على أهل المدينة القديمة، فبدونها لا يمكن للحركة التجارية أو الحرفية أن تنتعش في هذا المكان من المدينة، لصعوبة نقل السلع في الدروب الضيقة".
ففي أحياء مثل "الرصيف"، و"البطحاء"، و"الطالعة الصغرى"، و"الطالعة الكبرى"، و"بوجلود"، و"باب الكيسة" و"باب الفتوح"، وفي كل موقع من فاس البالي، يجد الزائر أن معظم دروبها وأزقتها الضيقة لا تتيح المرور إلا لشخصين بحد أقصى، وحيثما ذهب سيلحظ الحضور للحمير والبغال في دورة الحركة التجارية.
تجوب الحمير فاس البالي متنقلة بين بواباتها الـ14 الضخمة وسط الحرفيين التقليديين وهم يدقون في الرواق تحفة فضية أو يثبتون خيطا لقفطان تقليدي غير مبالين لزائر فضولي، أو حِرَفِي مدبغة الجلود الشهيرة "شوارة" القديمة التي حافظت على أسلوبها التقليدي الذي كان يستخدم منذ مئات السنين.
وكما هو حال أهل المغرب الذين حافظوا وبقوة على عاداتهم، يقول حرفي "تخرازت" أو صانع أحذية ميلود السادني لـ "العربي الجديد": "إن الحمير مهمة جدا في حياة أهل فاس البالي ووجب الاهتمام بها والمحافظة عليها، هي أهم من الرزق أحيانا، مضيفا "نحن لا نريد تغيير هذا الأسلوب من الحياة لقد نشأنا عليه وتعودناه، ولا نريد استبداله بسيارات تلوث المكان وتحدث الضجيج وتقتل المارة، إضافة لأسعارها المرتفعة".
لم تحافظ مدينة فاس على الحركة التجارية للدواب فحسب بل باتت نافذة مشرعة على التاريخ في أوجه كثيرة وجمعت مزيجاً بين القدم والحضارة والعلم والفن والعمارة والموسيقى. وضع حجر أساس هذه اللوحة الجميلة، أبناؤها إدريس الثاني وأخواله الأمازيغ منذ ما يزيد عن 12 قرنا، واستقطبت سكانها من الأندلسيين والقيروانيين، واليهود، والمسيحيين، والأفارقة، ولعبت على مدى تاريخها، دور مدينة انفتاحٍ وتعايش ٍديني، واستحقت لقب" كُلْشِي فِفاس".