أغرقت وزارة التموين والتجارة الداخلية المصرية شوارع وميادين مدينة القاهرة والمحافظات بكميات ضخمة من الدواجن الأوكرانية والبرازيلية المجمدة، والتي شارفت على انتهاء فترة الصلاحية للاستهلاك الآدمي. وفي ظاهرة غير مسبوقة، وقد شاركت منافذ وسيارات القوات المسلحة ووزارتا التموين والداخلية في بيع هذه الدواجن.
وبتصرف غير أخلاقي غضت الأجهزة الرقابية ومباحث وزارة التموين ومفتشو زارة الصحة، الطرف، وسمحت جميعها لأعداد كبيرة من الباعة الجائلين ببيع هذه الدواجن دون أن يحملوا بطاقات صحية سارية، مع عدم مراعاة الاشتراطات الصحية لتداول مثل هذه الأغذية سريعة الفساد، وبيعها خارج المحلات المخصصة، وعلى الأرصفة، وفي الهواء الطلق، وخارج ثلاجات حفظ الأغذية المجمدة.
وبينما خفضت المجمعات الاستهلاكية التابعة لإشراف وزارة التموين أسعار هذه الدواجن من 29 جنيهًا إلى 17 جنيهًا، فقد خفض الباعة الجوالون السعر إلى 12.5 جنيهاً، وتهافت الناس على شرائها، بالرغم من انتشار الشائعات والأقاويل حولها، وارتياب الناس في جودتها، بسبب قرب انتهاء فترة صلاحيتها بنهاية فبراير/ شباط ومارس/ آذار على أقصى تقدير.
وبالرغم من اتهام اتحاد منتجي الدواجن الحكومة بإغراق السوق المحلية وتدمير صناعة الدواجن الوطنية، فقد ادعت الحكومة النجاح في تخفيض أسعار الدواجن، وبرر وزير التموين سبب هذا التخفيض غير المسبوق بـ"قواعد السوق من العرض والطلب"، فيما أرجعه المتحدث الرسمي باسم الوزارة نفسها إلى توجيهات الجنرال، عبد الفتاح السيسي، إلى الحكومة بتخفيض أسعار السلع الرئيسية، والتخفيف عن المواطن محدود الدخل.
فتش عن العسكر
في ديسمبر/ كانون الأول 2016، وقعت الحكومة اتفاقية مع اتحاد منتجي الدواجن لتوريد 20 ألف طن دواجن محلية بسعر 20 جنيها للكيلوغرام، وطرحها بالمجمعات التابعة للوزارة بسعر 25 جنيهاً، في مقابل تراجع رئيس الحكومة عن قراره المستهجن بإلغاء رسوم التعريفة الجمركية على الدواجن المستوردة، والمفروض من أجل حماية المنتج الوطني.
واستمرت الاتفاقية سارية حتى مايو/ أيار 2017، حيث طالب الاتحاد رفع سعر التوريد إلى 29 جنيهًا، بسبب غلاء الأعلاف بعد قرار تعويم الجنيه، وهو ما رفضته الحكومة، ومن ثم جمدت الاتفاقية، بحجة المحافظة على مصلحة محدودي الدخل.
وبعد تجميد الاتفاقية مع المنتجين المصريين، أبرمت الحكومة، سرًا ولأول مرة، اتفاقية مع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، التابع للقوات المسلحة، ليس من أجل شراء الدواجن من السوق المحلية، ولكن من أجل استيراد دواجن مجمدة من أوكرانيا وروسيا والبرازيل، مع إعفائها من التعريفة الجمركية والمقررة بنسبة 30%، ثم توريدها بالأمر المباشر إلى شركات التوزيع التابعة لوزارة التموين، بالمخالفة لقانون مناقصات السلع التموينية المعمول به في استيراد القمح والسلع التموينية.
وعلى رغم أن الحكومة لم تعلن عن الاتفاق الذي أبرمته مع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية والذي يدخل مجال استيراد الدواجن لأول مرة، لكن الاتفاق لم يكن سرًا خافيًا عن الأطراف المتضررة من هذه الاتفاقية، وهما اتحاد منتجي الدواجن وأعضاء شعبة مستوردي الدواجن باتحاد الغرف التجارية، لكن أحدًا منهم لم يجرؤ على التصريح به، خاصة قرار إلغاء التعريفة الجمركية، خوفًا من اضطهاد قادة العسكر، الذين أصبحوا يتحكمون في مفاصل الاقتصاد والسياسة في مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013.
وظل استيراد جهاز مشروعات الخدمة الوطنية الدواجن المجمدة بدون تعريفة جمركية طي الكتمان حتى أعلن عنه المتحدث الرسمي باسم وزارة التموين والتجارة الداخلية، عن غير قصد، وهو يحاول كسب ثقة المستهلكين في جودة الدواجن المتداولة في الشوارع.
إغراق
استورد جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، التابع للقوات المسلحة، كميات ضخمة من الدواجن المجمدة في الربع الأول من العام الماضي بسعر 28 جنيهاً للكيلوغرام، وقال نائب رئيس الاتحاد العام لمنتجي الدواجن إنها وصلت إلى 250 ألف طن، وبمعدل 20 ألف طن في الشهر، باعتراف وزير التموين، وهي معدلات تزيد سبعة أضعاف عن الفجوة الاستهلاكية الحقيقية والتي تعالج باستيراد 3 آلاف طن فقط كل شهر.
ومع بداية تطبيق اتفاقية جهاز القوات المسلحة، قررت الحكومة زيادة أسعار الدواجن المستوردة في المجمعات الاستهلاكية التابعة لها إلى 31 جنيها، بحجة زيادة تكاليف الاستيراد بعد تعويم الجنيه، وكذلك قررت زيادة أسعار الدواجن المحلية إلى 35 جنيهًا، ولم تلتفت إلى مصلحة محدودي الدخل التي تغنت بها من قبل.
وأدت سياسة التسعير المقلوبة التي فرضتها الحكومة، إلى تراجع إقبال المستهلكين على الدواجن المحلية لصالح الدواجن المستوردة، وأصاب الركود سوق الدواجن المحلية، مع تخفيض سعر المجمدة إلى 17 جنيهاً، وحقق المربي المصري خسائر وصلت إلى 6 جنيهات مقابل كل كيلوغرام ينتجه من الدواجن المحلية.
وصلت خسائر الدولة من الدواجن المجمدة التي قام الجيش باستيرادها إلى 3.4 مليارات جنيه، وذلك بسبب غياب الخبرة والشفافية، لكن هذا ليس نهاية المأساة، حيث يؤدي استمرار إعفاء الجيش من تعريفة الجمارك على الدواجن المستوردة، ودخوله في منافسة غير متكافئة مع مربي الدواجن المصري، إلى تدمير الصناعة المحلية الناجحة والتي تكتفي ذاتيا بنسبة 95% من لحوم الدواجن، أو بروتين الفقراء كما يسميه المصريون، وبنسبة 100% من بيض المائدة، ويفتح بيوت أكثر من 2.5 مليون عامل، يعولون أكثر من 8 ملايين مصري.
حل الأزمة
انخفاض أسعار السلع الأساسية عامة، والدواجن خاصة، هو مطلب كل مواطن بسيط، وهدف كل وزير مسؤول، لكن إغراق السوق بالدواجن المستوردة، وحرق أسعارها في نهاية فترة صلاحيتها، ثم إعفاء المسؤولين عن هذا الفساد من المساءلة فهو، وإن أفاد المواطن لأيام أو أسابيع، لكنه في النهاية يدمر الصناعة الوطنية، ويكبد المنتِج المصري الخسائر التي تخرجه من دورة الإنتاج، لينفرد تاجر الدواجن المستوردة بهذا المواطن البسيط، ويكويه بنيران الأسعار التي سوف يحددها بنفسه كي يعوض خسائره السابقة.
الأزمة الأساسية في صناعة الدواجن في مصر هي الأعلاف، والتي تمثل الذرة الصفراء فيه 60% من تكاليف الإنتاج، ويستورده المحتكرون بمعدل 8.5 ملايين طن سنويًا، ويبيعونه بضعف السعر العالمي، ويتسبب في ارتفاع أسعار الدواجن المحلية، ويجهض الأمل في الاكتفاء الذاتي منها.
وقد استطاع باسم عودة، وزير التموين في حكومة هشام قنديل، تدشين مشروع للاكتفاء الذاتي من الذرة الصفراء بالاشتراك مع اتحاد منتجي الدواجن ووزارة الزراعة، من أجل توفير 1.6 مليار دولار تدفعها مصر في استيراد الذرة، لكن الانقلاب لم يمهل المشروع حتى يرى النور في نهاية 2013.
ولو خلصت نيات الحكومة في حل أزمة الدواجن وتوفيرها بأسعار منخفضة تناسب المواطن محدود الدخل، لأطلقت من جديد مشروع باسم عودة للاكتفاء الذاتي من هذا المحصول الاستراتيجي، بدلاً من التورط مع قادة الجيش في صفقات تغرق السوق بالدواجن المستوردة، والتواطؤ معهم بإسقاط الرسوم الجمركية، والتربح من المصريين بإطعامهم دواجن قاربت على الفساد وانتهاء الصلاحية، ثم إعفائهم بعد كل هذا الفساد من المحاسبة.