دوافع المواجهة وكوابحها بين حزب الله وإسرائيل
لا يبدو أن وضع تقدير موقف دقيق لتبعات اغتيال إسرائيل قادة ميدانيين من حزب الله مهمة يسيرة، لأنه يفتح الباب لسيناريوهات عديدة في قادم الأيام، آخذاً في الاعتبار ملاحظات مفتاحية، أهمها صعوبة أن يمر الحزب، مرور الكرام، على الخسارة الفادحة التي ألمت به، وسيبدو النقاش الذي يشغل صناع القرار، في بيروت وطهران ودمشق وتل أبيب، عن مكان الرد وحجمه وطبيعته، وليس هل سيكون هناك رد أم لا!
كما يهم التأكيد على أن قرار اغتيال بهذا الحجم يتجاوز مزايدات انتخابية إسرائيلية، ويتعداه ليكون قراراً متفقاً عليه بين المستويات العسكرية والأمنية والسياسية. وبالتالي، هناك تأهب لطبيعة الرد المتوقع من الحزب، فالأمر لا يتعلق بتصفية قائد ثانوي منه، ما يتطلب ممن وقّع على قرار الاغتيال أن يحمي ظهره سياسياً وأمنياً، إذا قُدر لأي لجنة تحقيق إسرائيلية أن تنشأ بعد مواجهة مفترضة عقب هذه التصفية.
تنشغل السطور التالية في رسم "خارطة طريق" لكيفية السلوك المتوقع لحزب الله، بسرد قائمة بالحوافز والكوابح تجاه أي خيار يحدده الحزب وحلفاؤه في المنطقة.
حتمية الرد
فضلاً عن الخسارة القاسية التي باغتت حزب الله بخسارته ستة من ضباطه العسكريين، نصفهم قادة من الصف الأول، بينهم نجل عماد مغنية، فقد جاء التوقيت محرجاً للغاية لشخص أمينه العام الذي لم يمض على تهديده إسرائيل أكثر من 48 ساعة، حين كرر حديثه عن مرحلة "ما بعد الجليل"، ما يحتم عليه أن يتبع لهجته القاسية ونبرته العالية بضغطة قوية على الزناد باتجاه إسرائيل. وهنا يظهر الدافع الأول لرد الحزب عموماً، وحسن نصر الله خصوصاً، على العملية الإسرائيلية، فمصداقيته تبدو على المحك، خصوصاً وقد فقد الرجل كثيراً من بريقه الشخصي وكاريزماتيته القيادية، بعد تورطه في المستنقع السوري، وتآكلت مساحة كبيرة من شعبيته التي تحصل عليها عقب حرب 2006 ضد إسرائيل. ولذلك، قد يبدو الرجل متحمساً، أكثر من أي وقت مضى، للذهاب نحو مواجهة إسرائيل، على الرغم من أن القرار يتخذ في الحزب مؤسساتياً، وبالتنسيق مع الحلفاء.
دافع ثانٍ متعلق بالصعيد الإقليمي، إذ يبدو الحزب بحاجة لمواجهة "محدودة" مع إسرائيل، تزيل عنه أدراناً لحقت به، بسبب تدخله في الملف السوري إلى جانب النظام، ما أضر بسمعته كثيراً، وبدل أن ترتبط صورته النمطية لدى المواطن العربي بمعارك بنت جبيل ومارون الراس ضد الجيش الإسرائيلي، حلت محلها عمليات الحزب الدامية في القصير وحمص وحلب أمام المسلحين السوريين. ولذلك، يحتاج الحزب ما يمكن أن نسميه "تحديثاً" لصفحته أمام الرأي العام العربي، بأنه ما زال الحزب المقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي.
عند الحديث عن شبكة التحالفات السياسية، يبرز الدافع الثالث لرد حزب الله، حيث لوحظ، أخيراً، ضخ واضح لدماء جديدة في شرايين علاقته بحركة حماس، ويدرك العالمون ببواطن الأمور أن الحزب كان له دور كبير في جسر الهوة بين مواقف الحركة وطهران "الأخ الأكبر"، وقد دأب الحزب وقادته، في الآونة الأخيرة، على تكرار عبارة "تكوين جبهة صد ضد العدو الإسرائيلي"، في نسخة محدثة من محور الممانعة. لكن حماس قد لا تبدو متشجعة لفتح جبهة موازية ضد إسرائيل جنوباً في غزة، إذا ما قدر للجبهة الشمالية أن تشتعل في لبنان، على الرغم من أن ذلك أمنية لا تقدر بثمن من الحزب، ومع ذلك، سارعت الحركة للتنديد بالاغتيال الإسرائيلي، وتسابق قادتها لتعزية الحزب بفقدانه قادته، وتؤكد أوساط الجانبين أن الحادث، على قساوته، حمل أنباءً طيبة عن توثيق للعلاقة بين حزب الله وحماس.
دافع رابع قد يُستبعد قليلاً، لكنه حاضر عند اتخاذ القرار بالمواجهة المفتوحة مع إسرائيل، ويتعلق باقتراب المفاوضات النووية الإيرانية مع القوى العظمى، فربما تحتاج طهران "حرباً تحريكية" في الإقليم، تستخدم فيها قوتها "الخشنة" متمثلة بحزب الله لإيذاء إسرائيل، الطفلة المدللة للغرب في المنطقة، صحيح أنها قد تبدو مناورة إيرانية مشروعة سياسياً، لكنها قد تقترب حد "المغامرة والمقامرة"، فلا أحد يعلم مآلات أي مواجهة تنشب بين الحزب وإسرائيل.
قد يشكل العامل السوري دافعاً خامساً يحث الخطى نحو رد قادم من حزب الله ضد إسرائيل، فلا أحد يشك في توفر رغبة سورية عارمة بتأخير تصدر أحداث الأزمة السورية لأجندة صناع القرار الإقليمي والدولي، ولن تجد دمشق فرصة أفضل من انخراط الحزب وإسرائيل في مواجهة ما، محدودة أو مفتوحة، المهم أن ينشغل العالم بها، ويتوافد المبعوثون بين تل أبيب وبيروت، وتغيب زيارة دمشق عن تذاكر سفرهم، مؤقتاً على الأقل!
صحيح أن اندلاع مواجهة ما بين تل أبيب وبيروت قد يتطلب من حزب الله استدعاء مقاتليه المنتشرين في المدن السورية، ما قد يكشف ظهر دمشق أمام المعارضين المسلحين، لكن النظام السوري سيعتبر نفسه جزءاً من أي حل سياسي، سيعقب مواجهة ضارية بين الحزب وإسرائيل، وهو ما يبحث عنه منذ سنوات، بتحسين شروط التفاوض مع المعارضة وداعميها، تقديراً منه بأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية لن تقبل بأن تُدك المدن الإسرائيلية بالصواريخ على مدار الساعة.
فرضيات التريث
في مقابل تلك الدوافع والحوافز التي تشجع حزب الله للرد على عملية الاغتيال الإسرائيلية، تتزايد أمامه الكوابح والمحاذير التي تطلب منه التريث والتأني، بل والعد للعشرة قبل إطلاق أول قذيفة باتجاه المستوطنات الإسرائيلية شمال فلسطين المحتلة.
لعل أول هذه المحاذير أن الحزب يدرك تماماً أن قدراته التسليحية، على تناميها وتعاظمها، لكنها مستنزفة فعلياً من الناحية العملياتية واللوجستية في مختلف الجغرافيا السورية، صحيح أن قراراً ميدانياً من القيادة العسكرية للحزب يشبه استدعاء الاحتياط في الجيوش النظامية قد يعيد جميع مقاتليه إلى قواعدهم في الجنوب اللبناني، لكن ذلك يتطلب تأهيلاً وترميماً سيستغرق وقتاً ليس هيناً.
كابح ثانٍ قد يحول بين الحزب وذهابه لتصعيد مع إسرائيل يتعلق بأن جبهته الداخلية ليست فقط غير متفقة معه بالكامل على هذه المواجهة، كما حصل إبّان حرب 2006، وانقسام اللبنانيين بين مؤيد ومعارض، بل إنها اليوم تشكل خاصرة ضعيفة باتجاهه، في ظل ما يعتبره لبنانيون كثر أن الحزب أصيب بهذه الخسارة الفادحة باغتيال قادته، لأنه وجد في المكان الخطأ، فما الذي دفعه إلى إرسال مقاتليه وعساكره إلى القنيطرة السورية، في معركة لا ناقة فيها ولا جمل لأي من اللبنانيين؟ فضلاً عن وجود مجموعات مسلحة تابعة للقاعدة وجبهة النصرة وتنظيم الدولة، يخشى الحزب أن تستغل انشغاله في الشمال اللبناني لمقاتلة الجيش الإسرائيلي، فتباغته بطعنات من الخلف وسط لبنان وشماله على الحدود مع سورية. وفي هذه الحالة، قد لا يقوى الحزب على توزيع قواته على جبهتين، في آن معاً.
وقد يشكل العامل الإسرائيلي الداخلي، والموسم الانتخابي حامي الوطيس، كابحاً ثالثاً أمام حزب الله، في عدم استدراجه إلى ما قد يراه "فخاً" إسرائيلياً، مكلفاً هذه المرة أكثر من حرب تموز، وهو يدرس بعناية الاستقطابات الحزبية الإسرائيلية التي أعقبت انتهاء حرب غزة أخيراً، وقد يبدو أكثر ذكاءً بعدم تحوله حطباً في وقود الدعاية الانتخابية الإسرائيلية.
كما أن الدروس الإسرائيلية المستفادة من حرب غزة قد تجد طريقها إلى قرى الجنوب اللبناني. لكن، بصورة أكثر قسوة وأشد فتكاً، فالحزب يرصد، على مدار الساعة، تصريحات الساسة والعسكر الإسرائيليين، وهم يهددون بإعادة لبنان إلى "العصر الحجري"، إذا اندلعت أي حرب جديدة!
خيارات الفعل
أمام دوافع وكوابح الرد المتوقع لحزب الله على العملية الإسرائيلية، يبدو صانع القرار فيه مطالباً بأن يجري مفاضلة دقيقة حساسة بين خياراته المتاحة، على ضيقها، لاسيما بالنظر للآثار المتوقعة لكل رد، وهزاته الارتدادية في الجوار الإقليمي للحزب.
تسمح لنا قراءة الواقع السياسي المعقد في لبنان بترجيح خيار أول، يتمثل بأن يجتهد حزب الله كثيراً في تحييد الساحة اللبنانية عن رده المفترض، لأكثر من سبب ذكر آنفاً، لكن الحزب لا يمتلك "بوليصة تأمين"، تجعله يثق بأن إسرائيل لن ترد عليه خارج الأراضي اللبنانية، من باب تدفيعه ثمناً شعبياً أكثر، وقد أعاد الإسرائيليون صياغة نظريتهم العسكرية تجاه لبنان عقب 2006، بقولهم إن عدوهم في "حرب لبنان الثالثة" هو لبنان بأسره، وليس حزب الله فقط.
خيار ثانٍ يتزايد يتمثل بأن تشكل الحدود السورية الإسرائيلية ساحة رد حزب الله، على الأقل تذرعاً بأن الأرض السورية شهدت اغتيال قادته، وبالتالي، الانتقام من إسرائيل يأتي من البقعة الجغرافية نفسها، وقد لا يجد الحزب معارضة رسمية من النظام السوري، إن كان ذلك قد يفاقم الأوضاع "نسبياً" مع إسرائيل، واستعادة النظام بعضاً من البعد العربي القومي الذي تلاشى أمام مشاهد الدماء والمجازر واللجوء.
يذهب الخيار الثالث الذي تبدو كلفته أقل من سابقيه، في رد حزب الله، بعيداً نحو الأهداف اليهودية والسفارات الإسرائيلية في قارات العالم الست، وقد كشف النقاب، في السنوات الماضية، عن خلايا عسكرية نائمة للحزب في بعض دول العالم، لا سيما أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. ولذلك، جاء الاستنفار من وزارة الخارجية الإسرائيلية التي عممت على سفاراتها أخذ مزيد من الحيطة، تحسباً لأي عملية متوقعة من الحزب، وطلبت من الإسرائيليين حول العالم أن يكونوا أكثر حذراً.
وتعلم إسرائيل أن لدى حزب الله مجموعات عسكرية متواضعة، وخلايا مسلحة نائمة، في الأراضي الفلسطينية، الضفة الغربية وقطاع غزة ومناطق 48، وهنا قد يخرج الحزب خياره الرابع، بتفعيل تلك الخلايا، لتنفيذ عمليات مؤلمة في الداخل الإسرائيلي، على الرغم من أن فرصها ضئيلة، بسبب إحكام السيطرة الأمنية الإسرائيلية على تلك المناطق.
أخيراً.. حزب الله في وضع لا يحسد عليه البتة، فقد خسر ثلة من قادته العسكريين على حين غرة، وقد يجد صعوبة في تسويق فرضية "الرد على طبق بارد" بين مناصريه، كما فعل عقب اغتيال عماد مغنية في 2008، فجاء الرد عليه بعملية تفجيرية في بلغاريا ضد هدف يهودي عام 2012، بعد مرور أربع سنوات كاملة، ما جعل مريديه يتلقفون رده بغير كثير من الحماس والترحيب، فقد تأخر الرد كثيراً عن رئيس أركان حزب الله، فكيف والحال باغتيال قيادة هيئة الأركان مجتمعة؟
تبدو قيادة حزب الله، وقد أسقط في يدها بعد حادث الاغتيال الجماعي، كمن أدخل حبة بطاطا ساخنة في فمه، فلا هو قادر على ابتلاعها لتحرق جوفه، ولا إلقائها خارجه فتصيب بعض ثيابه، ما سيجعله واثقاً، كل الثقة، أن يناير/كانون الثاني 2015 سيشكل محطة فاصلة في تاريخ مواجهته مع إسرائيل، لتبدو حرب 2006 بروفة مصغرة عما قد ينتظر الجانبين، إن أطلق أحدهما القذيفة الأولى باتجاه ساحة الآخر!