يصل الرجل السبعيني الى المقهى لاهثاً بثياب مخصصة للتمارين الرياضية. لا أعلم من أين يأتي، لكنه يأتي مبللاً بالعرق. لا يوفر هذا الرجل صباحاً في المقهى تماماً كما أفعل. يأخذ استراحته هنا على ما يبدو. يدخل ليطلب من العامل شيئاً يبدو أنه ليموناضة على ثلج. قهوتي تنظر إلى كوبه وهي تعاني قيظ حرّها. يجلس ليحدّق بالمارة يتفقد يومياتهم. دقائق ويُخرج من جيبه سيجارة واحدة. لا أعلم كيف يحتفظ بها هذا المسن الرياضي فلا علبة دخان في جيبه ولا على طاولته. يشعلها بيدين مرتجفتين، وبيده اليمنى ولاعة يقبض عليها بحرص. يده اليسرى تحمل وشماً لحرفين يفصلهما نقطة. وشمٌ أخضرٌ في طريقه إلى التلاشي لما رآه هو الآخر من شموس.
لا يبدو لي الرجل غامضاً على الرغم من صمته وثيابه الرياضية ولهاثه وسيجارته الوحيدة. تشتعل سيجارته لتزيدني معرفة به، فهو ينفث لهاثه والدخان معاً، ينفث حضوره اليومي، ثم يعود ليهتم بالرصيف وبما حمل. تراه معجباً بأحذية المارة، أو أنه على أقل تقدير يهتم بها، يهتم لأكعاب تقلق راحة المنتعلات. صوت الأكعاب لا يشبه صوتها في المنزل عندما تقرر جارتك المشي بها فوق رأسك، فالصوت هنا لا يعلو فوق صوت ضجيج الشارع. لا يمكن للصوت أصلا اختراق جدار دعاء المتسولين. هؤلاء الذين يشكلون وقتاً مستقطعاً من متعة الرجل. يشتتون أنظاره، يفوتون عليه الفرصة تلو الأخرى. إنهم يهددون متعته. يتحايل الرجل على قلقه برشفة من كوب العصير يليها مجّة سيجارة ثم نظرة خاطفة. يبدد الرجل نظرات المتسول إلى كوب العصير المتعرّق بنظرة لاعب الپوكر، فتحسب أن الرهان بينهما ستحسمه خسارة أحد الطرفين.
لا لقاء قريب للرجل بأحد من أصدقائه، أو لا حتى صدفة تجمعه بأي من معارفه. يواظب على وحدته هنا، إنه المجهول على رصيف المقهى بالنسبة للجميع باستثناء النادل وأنا. يحتل الصمت كامل كلام المساحة من وجهه. كنت أظن أنه ينظر لكل ما ذكرته، بيد أنه يحاول تعطيل ذاكرته المثقلة بالصور، هكذا أردت أن أنظر إليه، أو هكذا تخيّلت المشهد. تخيّلت أنه يزيل من ذاكرته ما تراكم عبر تجميع صور أخرى بديلة، صور الناس وأحذيتهم، صور المتسولين وصور البائعين وصورة الشجرة الوحيدة المتكئة على حائط البناء المجاور. هذه الشجرة المترهلة المنهكة أيضاً التي فقدت ذاكرتها عنوةً، فلم تعد العصافير تمر بها. يزيل الرجل رواسب ترزح تحت وطأتها ذاكرته لمدينة أنهكته، جعلته يحمل معه كل تناقضاته ويأتي بها إلى المقهى.
كنت أنتظره أن يفعل أي حركة غير شرب العصير والتدخين والنظر والتعطيل، لكنه يمضي ساعته على النحو أعلاه دون زيادة أو نقصان. إنه الوحيد الذي رأيته يغادر المقهى دون أن يلتفت إلى الوراء. حتى أنه الوحيد الذي لا ينظر إلى طاولته ليتفقد أغراضه، فلا يحمل تعليقة مفاتيح أو هاتفا جوالا أو علبة دخان أو محفظة. ما يحمله فعلاً هذا الرجل معه هو ولّاعة وذاكرته، فحتى نظراته يتركها في المقهى، ويترك خلفه الرهان الذي كسبه مع المتسول. تراه يلعق شفتيه عند المغادرة للحفاظ على ما تبقى من آثار عليها كطعم الليمون ورائحة السيجارة، إنها ذاكرة يود الاحتفاظ بها حتى النفس الأخير. هذا ما تبقى له بعد سبعين عاماً أمضاها بين المارة على اختلاف مشاربهم.
سيأتي اليوم الذي يتخلف الرجل عن اللهاث والحضور. سيغيب الرجل عن المقهى يوماً ما، سيغيب قسراً لظروف سوف نجهلها، ليس مهماً أن نعلم لماذا غاب ونزعج أنفسنا بالتكهّن وتركيب سيرورة الرحيل وفقاً لمخيال لا يعرف سوى التعب. لكن المارة ستواظب على ارتياد الرصيف الباقي لظروف نعرفها. ستمرّ بابتساماتها وتجهماتها وبهرعها المعتاد وبالتؤدة التي تبدو على مشية البعض. إن الشجرة ستغيب أيضاً طالما أن سندها، ذاك الحائط من البناء، سيزول في مدينة تكره العمارة القصيرة وتعمل على استبدالها بالعمارة شاهقة الارتفاع. مدينة تكره الرجل ذاك والشمس معاً. أما المارة هنا، ذاكرة الرجل الرياضي، فإنها وديعة ونيسي في المقهى. سوف تواظب على المرور بذاكرتي عن رجل فقد نظره لصالح مذاق الليمون والتبغ.
لا يبدو لي الرجل غامضاً على الرغم من صمته وثيابه الرياضية ولهاثه وسيجارته الوحيدة. تشتعل سيجارته لتزيدني معرفة به، فهو ينفث لهاثه والدخان معاً، ينفث حضوره اليومي، ثم يعود ليهتم بالرصيف وبما حمل. تراه معجباً بأحذية المارة، أو أنه على أقل تقدير يهتم بها، يهتم لأكعاب تقلق راحة المنتعلات. صوت الأكعاب لا يشبه صوتها في المنزل عندما تقرر جارتك المشي بها فوق رأسك، فالصوت هنا لا يعلو فوق صوت ضجيج الشارع. لا يمكن للصوت أصلا اختراق جدار دعاء المتسولين. هؤلاء الذين يشكلون وقتاً مستقطعاً من متعة الرجل. يشتتون أنظاره، يفوتون عليه الفرصة تلو الأخرى. إنهم يهددون متعته. يتحايل الرجل على قلقه برشفة من كوب العصير يليها مجّة سيجارة ثم نظرة خاطفة. يبدد الرجل نظرات المتسول إلى كوب العصير المتعرّق بنظرة لاعب الپوكر، فتحسب أن الرهان بينهما ستحسمه خسارة أحد الطرفين.
لا لقاء قريب للرجل بأحد من أصدقائه، أو لا حتى صدفة تجمعه بأي من معارفه. يواظب على وحدته هنا، إنه المجهول على رصيف المقهى بالنسبة للجميع باستثناء النادل وأنا. يحتل الصمت كامل كلام المساحة من وجهه. كنت أظن أنه ينظر لكل ما ذكرته، بيد أنه يحاول تعطيل ذاكرته المثقلة بالصور، هكذا أردت أن أنظر إليه، أو هكذا تخيّلت المشهد. تخيّلت أنه يزيل من ذاكرته ما تراكم عبر تجميع صور أخرى بديلة، صور الناس وأحذيتهم، صور المتسولين وصور البائعين وصورة الشجرة الوحيدة المتكئة على حائط البناء المجاور. هذه الشجرة المترهلة المنهكة أيضاً التي فقدت ذاكرتها عنوةً، فلم تعد العصافير تمر بها. يزيل الرجل رواسب ترزح تحت وطأتها ذاكرته لمدينة أنهكته، جعلته يحمل معه كل تناقضاته ويأتي بها إلى المقهى.
كنت أنتظره أن يفعل أي حركة غير شرب العصير والتدخين والنظر والتعطيل، لكنه يمضي ساعته على النحو أعلاه دون زيادة أو نقصان. إنه الوحيد الذي رأيته يغادر المقهى دون أن يلتفت إلى الوراء. حتى أنه الوحيد الذي لا ينظر إلى طاولته ليتفقد أغراضه، فلا يحمل تعليقة مفاتيح أو هاتفا جوالا أو علبة دخان أو محفظة. ما يحمله فعلاً هذا الرجل معه هو ولّاعة وذاكرته، فحتى نظراته يتركها في المقهى، ويترك خلفه الرهان الذي كسبه مع المتسول. تراه يلعق شفتيه عند المغادرة للحفاظ على ما تبقى من آثار عليها كطعم الليمون ورائحة السيجارة، إنها ذاكرة يود الاحتفاظ بها حتى النفس الأخير. هذا ما تبقى له بعد سبعين عاماً أمضاها بين المارة على اختلاف مشاربهم.
سيأتي اليوم الذي يتخلف الرجل عن اللهاث والحضور. سيغيب الرجل عن المقهى يوماً ما، سيغيب قسراً لظروف سوف نجهلها، ليس مهماً أن نعلم لماذا غاب ونزعج أنفسنا بالتكهّن وتركيب سيرورة الرحيل وفقاً لمخيال لا يعرف سوى التعب. لكن المارة ستواظب على ارتياد الرصيف الباقي لظروف نعرفها. ستمرّ بابتساماتها وتجهماتها وبهرعها المعتاد وبالتؤدة التي تبدو على مشية البعض. إن الشجرة ستغيب أيضاً طالما أن سندها، ذاك الحائط من البناء، سيزول في مدينة تكره العمارة القصيرة وتعمل على استبدالها بالعمارة شاهقة الارتفاع. مدينة تكره الرجل ذاك والشمس معاً. أما المارة هنا، ذاكرة الرجل الرياضي، فإنها وديعة ونيسي في المقهى. سوف تواظب على المرور بذاكرتي عن رجل فقد نظره لصالح مذاق الليمون والتبغ.