كانت الساعة تقترب من السادسة صباحاً عندما أفاقت فاطمة إبراهيم على حركة والدتها المتسارعة في أرجاء المنزل. سارعت الأم للملمة ذهبها وأموالها وتكديس بعض الملابس لجميع أفراد الأسرة في حقائب، استعداداً للرحيل. تقول فاطمة: "قبل أن أسأل أمي ماذا يحدث، سمعت دوي طلقات نارية قادمة من جهة النافذة، ولمحت عشرات الجنود والملثمين في شارع النصر، فحصلت على إجابة عن سؤالي".
في الرابع عشر من أغسطس/ آب 2014، كانت فاطمة، الفتاة العشرينية آنذاك، تقطن مع أسرتها في حي مدينة نصر، شرقي القاهرة، وعلى مقربة أمتار قليلة من ميدان رابعة العدوية (سابقاً)، حيث جرت مذبحة فض الاعتصام، ما أودى بحياة الآلاف من الأشخاص.
لم تكن فاطمة معتصمة مع أنصار الرئيس الراحل محمد مرسي في ميدان رابعة، لكنها كانت متعاطفة مع مطالبهم، ومؤمنة بالتجربة الديمقراطية التي جاءت بالرئيس مرسي لسدة الحكم، على حد قولها. وصبيحة يوم الفض، أُجبرت فاطمة على الرحيل مع أسرتها، وكانت تتمنى الانضمام للمعتصمين ومؤازرتهم في وجه المدرعات والأسلحة المدججة والقناصة الذين انتشروا في أعلى البنايات.
تروي فاطمة: "غادرنا المنزل بأعجوبة، مررنا في أزقة وشوارع جانبية، منخفضي الرؤوس ومنحني الظهور لتفادي الرصاص الذي نسمعه عن قرب، ونشاهده بعد أن يخترق أجساد المعتصمين، ويطرحهم أرضاً". تضيف: "لم أنسَ يوماً صورة السيدة المنقبة التي راحت تصرخ بأعلى صوتها بحثاً عن صغارها، ثم جلست على أحد الأرصفة واضعة رأسها بين يديها، تنتظر مصيراً احتمالاته كانت بين الموت أو الإصابة. ولم أنسَ يوماً الخيام المحطمة وبقايا الطعام المدهوسة على الأرض بسبب الجرارات والمدرعات".
تضيف فاطمة: "خرجنا من منطقة مدينة نصر قرابة التاسعة أو العاشرة صباحاً، وأمضيت يومي أمام التلفاز، ولم يفارق هاتفي المحمول يدي. أمرّر أصابعي على الشاشة من أعلى لأسفل للوصول إلى المنشورات الأحدث على منصات التواصل الاجتماعي، التي كانت يومها مرآتنا لما يدور داخل الاعتصام طوال يوم الفض".
عانت فاطمة لفترة طويلة من كوابيس لاحقتها في ساعات النوم القليلة التي كانت تحصل عليها بعد أن يهد الأرق قواها. كانت تسمع في نومها أصوات صراخ ونحيب وتكسير. وكثيراً ما كانت ترى في نومها أيادي ملطخة بالدماء. لكن صوت الصراخ كان العامل المشترك في جميع كوابيسها. لم يغب على مدار أشهر طويلة. كما عانت من صداع مزمن كانت تهدئه بالمسكنات أحياناً، ويعاود إحكام قبضته على رأسها من التفكير وقلة النوم والأرق معاً. تقول فاطمة: "الأرق والصداع وفقدان الشهية ونحول الوجه وملامح الاكتئاب تمكنت منّي. حينها فقط قررت الذهاب إلى طبيب نفسي".
كانت الجلسة الأولى لفاطمة على الكرسي الممدد في عيادة الطبيب النفسي، عبارة عن بكاء تخللته بعض الومضات عن الذكريات والمخاوف والآلام، على حد قولها. لكنها ارتاحت قليلاً بعد تناول الأدوية والمهدئات التي كتبها الطبيب في روشتة العلاج.
قال لها الطبيب المعالج إن ما يحدث معها قد يتطوّر في مراحل لاحقة "فإذا استسلمت للقلق، ستقلقين كثيراً حتى من أبسط الأمور. وإذا تشبثت بالأمل ستصلين إليه". من هذا المنطلق وجه لها نصائح عدة، مثل التركيز على الهوايات والمهارات، والارتباط بلعبة أو هواية، ومسح مواقع التواصل الاجتماعي عن الهاتف المحمول والاكتفاء بالاطلاع عليها فقط من خلال الكمبيوتر لتقليل ساعات التعرض للأحداث والأخبار. كما نصحها بالانتظام في العلاج والنوم في مواعيد روتينية، والمشي لساعات طويلة، والنظر في المدى البعيد والواسع كالسماء والبحر.
تتذكر فاطمة نصائح طبيبها النفسي بالترتيب نفسه إلى اليوم. ما زالت تتناول دواءً مضاداً للاكتئاب إلى اليوم، وإلى اليوم ما زالت تتذكّر يوم المذبحة كأنها حصلت بالأمس.
يميز علم النفس بين الصدمة كحدث، واضطراب الصدمة كحالة نفسية. وهناك العديد من أنواع اضطرابات الصدمة التي تحدث نتيجةَ التعرُّض لأحداث مخيفة وقاسية ومؤلمة، تؤدي إلى صعوبة العيش أو التعايش بشكلٍ طبيعي. ويمكن أن تترك أثراً بالغاً وطويل الأمد لدى العديد من الأشخاص، يتفاوت حسب مستويات معايشة الحدث، وعوامل وراثية واجتماعية، وكذلك عوامل اقتصادية تتحكم في تطور الحالة ووصولها إلى ضرورة زيارة الطبيب وتناول الأدوية.
واضطراب ما بعد الصدمة، قد يظهر بعد أسابيع أو أشهر تمتد لستة أشهر من تاريخ معايشتها، وفقاً للدراسات. وقد يحدث في صورة كوابيس أو تجنب مواقف وأماكن معينة، وكذلك من خلال الأرق وفقدان القدرة على الاسترخاء والشعور الوهمي بالقلق والخطر المحيط والوشيك.
تشير الأرقام والدراسات الرسمية المصرية إلى تزايد عدد المرضى النفسيين في مصر، عاماً تلو الآخر. وقد أشار المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية في تقرير له، عام 2019، إلى ارتفاع نسبة المرضى النفسيين في مصر إلى 14 في المائة بين البالغين، 60 في المائة منهم يفكرون في الانتحار، و18 في المائة منهم ينفذون جرائم بالفعل.
وأشارت الدراسة نفسها إلى أن 17 في المائة من المصريين مصابون باضطرابات نفسية، ما قد يدفعهم لارتكاب جرائم بسبب الضغوط الحياتية والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
في عام 2018، رصد المسح الصحي للصحة النفسية على مستوى الجمهورية، أن 25 في المائة من المصريين يعانون من اضطرابات نفسية، بينما يعاني 7 في المائة من المصريين من الأمراض النفسية، و1.6 في المائة يعانون من القلق، و3.1 في المائة من الاكتئاب، و0.19 في المائة من الاضطرابات الذهنية. ونقلاً عن أبحاث وزارة الصحة المصرية حول الصحة النفسية ومرض الإدمان، فإنه في عام 2017، عانى ما بين 10 و12 في المائة من المصريين من المرض النفسي بمختلف أشكاله.