عرف القرن العشرون الكثير مما اصطلح على تسميته بالمنعطفات المعرفية، أبرزها المنعطف اللساني والمنعطف التأويلي، والتي تتميّز بكونها تفرض حالة من المراجعات في مختلف ميادين المعرفة في زمنها. من بين هذه المنعطفات، كثيراً ما أشار الباحثون إلى ظهور حقل الدراسات الثقافية، في ستينيات القرن الماضي، وهو مجال يصعب وضع حدود له حيث يلامس كل الميادين المعرفية والإبداعية، من العلوم إلى الفنون، ويجعل من مجال بحثه كل الفئات مهما كانت مهمّشة.
ضمن هذا الحقل نفسه يمكننا الحديث عن منعطف داخليّ، ذلك الذي يُنسب إلى الباحث البريطاني-الجمايكي ستيوارت هول (1932-2014) الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده. كانت الدراسات الثقافية ضمن مشروعها الأصلي محاولة لفهم ديناميكيات الإبداع من جهة، ومن أخرى محاولة فهم التأثيرات التي تفرزها المنتجات الثقافية على المجتمع، وكانت هذه الرؤية نخبوية إلى حدّ كبير على اعتبار أن المنتج الثقافي في تعريفه يكون حصيلة جهد كتّاب وفنانين ومفكرين معترف بهم، أي أنهم جزء من النخبة.
جاء هول عكس اتجاه هذه الرؤية، ولكن للمفارقة في نفس اتجاه المسارات الاجتماعية، حيث أدخل الكثير من المنسيات إلى دائرة البحث العلمي، مثل تقاليع الشباب وموسيقى الأندرغراوند والخطاب غير الرسمي، وهو ما جعل منه أقرب إلى ناشط اجتماعي.
من جانب آخر، أدرج صاحب "تشفير/ فك تشفير" ضمن اهتماماته المنتج الثقافي القادم من خارج دائرة المركزية الأوروبية، ولعله استفاد هنا من كونه ينتمي إلى أسرة ذات أصول عرقية متداخلة، أفريقية وهندية وأوروبية، وقد عاش طفولته في جامايكا، ثم أنه في سنوات نضجه كان شاهداً على تقبّل الجماهير (في المركز) لفنّ الريغي وتأسطر بوب مارلي في عواصم الغرب، وهي وضعية مثيرة علمياً اشتغل عليها هول دون أن يقتصر عليها.
أثبت هول في دراساته أن الثقافات المهمشة، كانت تحتوي على بنى لا تقل تركيباً عن الثقافات النخبوية وأنها هي الأخرى حاملة لنظام قيم. كانت هذه الرؤية عنصراً ينقص منظومة العلوم الإنسانية في سبيل تفسير عدم قدرة الثقافة النخبوية في النصف الثاني من القرن العشرين على القيام بنفس الدور التوجيهي الذي كانت تقوم به في السابق. بات من الواضح أن أغنية إيقاعية باتت تصنع أثراً في الممارسات الاجتماعية أكثر بكثير من عمل سيمفوني، وأن فيلم رعب له أثر في التمثّلات العامة أكثر من فيلم تاريخي. كانت نتائج هذه الأبحاث سبباً في تغيير الكثير من السياسات التواصلية في عالمنا الحديث.
لكن أهم ما يُحسب لهول أنه كان يقدّم طرحاً متعدّد الجوانب كتعدّد أصوله، وهو ما صنع هويّة خاصة بحقل الدراسات الثقافية، حيث جمع بين مقاربات علم الاجتماع تخصّصه الأصلي، وزوايا نظر علوم الميديا وهي في بدايات تهيكلها، إضافة إلى استلهام المنهجيات الماركسية خصوصاً في المسألة الثقافية فكان مفهوم الهيمنة الغرامشي أحد أبرز أدوات هول، وإلى ذلك ترك أبحاثه مفتوحة على تيارات جدّ حديثة وقتها مثل ما بعد الكولونيالية ودراسات الهوية، كما اهتم لاحقاً بدراسات الألعاب وشبكات التواصل الإلكتروني، وبذلك يعدّ نموذجاً لمتطلبات الباحث الحديث الذي لا ينغلق في دائرة اختصاصه، كما لا ينحصر في مرجعيات ثابتة بما أن هول استلهم في إنتاجه النظري مفاهيم ومقاربات من مفكرين متباعدين مثل رولان بارت وميخائيل باختين وأنطونيو غرامشي وكلود ليفي ستروس.
بهذا الثراء في المرجعيات والانشغالات، نجح هول في تطويع مجال الدراسات الثقافية لفهم ظواهر كثيرة، وجعل البحث العلمي قابلاً للاستفادة منه خارج المركزية الغربية (مركزيتها الداخلية والخارجية). هنا، لا بدّ من التساؤل عن حضور أدواته عربياً، ما الذي يؤخّر استقبال ستيوارت هول لدينا؟