13 أكتوبر 2015
رؤية في مشروع "المصالحة" التونسية
منذ طرحه على مجلس النواب التونسي، ما زال مشروع قانون المصالحة الذي تقدمت به رئاسة الجمهورية مثارا للتجاذبات والخلافات داخل النخبة السياسية والمجتمع المدني في البلاد، بل إنّ المتابع للشأن التونسي يلحظ تصاعد زخم الرفض السياسي والشعبي لهذا المشروع، بما ينذر بأزمة سياسية بدأت بوادرها بالتشكلّ، خصوصاً في ظلّ إصرار رئاسة الجمهورية على عدم سحب المشروع.
وتكشف صور تفريق الوقفات الاحتجاجية للشباب المتزعّم حملة "مانيش مسامح"، والتعامل الأمني المفرط معها، وجود هوة حقيقية بين جزء من المجتمع المدني والسلطة التي تشددّ على عدم قانونية التظاهر في حالة الطوارئ، بينما يصرّ الشباب المنظم للحملة على حقه في التظاهر والاحتجاج على مشروع "قانون المصالحة"، باعتبار عدم دستوريته، وضربه العدالة الانتقالية ومبدأ المساواة التي يكفلها الدستور، ومساهمته في توفير غطاء قانوني، يعفو عن جرائم رجال أعمال نهبوا المال العام، وأضرّوا بمصالح الدولة. كما يشمل مشروع القانون العفو عن أمنيين ممن تورطوا في التعذيب والانتهاكات الجسدية، وكذلك إدارييّن ساهموا في توفير حلول قانونية للفساد.
يشددّ رافضو مشروع قانون المصالحة الذي تقدمت به رئاسة الجمهورية على أنّ هذا القانون
جاء ليضرب أسس العدالة الانتقالية، بما يمسّ استكمال مسار الانتقال الديمقراطي، باعتبار أنّ هذا القانون المسقط يفرغ العدالة الانتقالية من جوهرها القائم أساساً على مبدأ المحاسبة والمصالحة. ويستشهد معارضو قانون المصالحة بمعظم تجارب الدول التي شهدت ثورات وانتقالاً ديمقراطياً، والتي كانت العدالة الانتقالية دعامة أساسية في تحقيق مصالحة حقيقية بين الجلّاد والضحية، من خلال عمل جبّار اضطلعت به هيئات دستورية، مكّنت من طيّ صفحة الماضي، وتجاوز الآثار النفسية والاجتماعية عقوداً من الديكتاتورية.
وعلى الرغم من اختلاف عديدين مع رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، فإنّ معظم الحقوقييّن ونشطاء المجتمع المدني وعددا من رؤساء الأحزاب السياسية يرون أنّ الحملة على رئيسة الهيئة في ظلّ مطالبة برلمانيين التحقيق في شبهات فساد وسوء تصرف داخل الهيئة، هي، في الحقيقة، استهداف لمسار العدالة الانتقالية، خصوصاً في ظلّ الرفض القويّ لمجلس الهيئة لمشروع قانون المصالحة الذي قدمته رئاسة الجمهورية، معتبرين أنه يجب التمييز بين الأشخاص والهيئة التي يجب أن تبقى فوق الجميع.
ولم تنفع محاولات الرئاسة في الدفاع عن هذا المشروع، وكذلك الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي، في التخفيف من حدة معارضته التي تجاوزت الحراك الشبابي الحرّ، لتشمل معظم الأحزاب المعارضة التي اتفق جزء منها على تنظيم وقفة احتجاجية يوم 12 سبتمبر/أيلول الجاري، في تحدّ لقرار الحكومة بمنع التظاهر والمسيرات، تحت غطاء قانون الطوارئ. وعلى الرغم من فشل المعارضة في توحيد تحركها بإعلان الجبهة الشعبية عدم مشاركتها في هذه المسيرة، فإنّ المشروع المقدم من رئاسة الجمهورية نجح في توحيد المعارضة ومكوّنات المجتمع المدني، وجزء من شباب الثورة ضده.
وقد زادت تصريحات قيادات من الاتحاد العام التونسي للشغل رافضة تمرير المشروع، في
نسخته الحالية، من حدّة الرفض الشعبي له، خصوصاً وأنّ موقف الاتحاد أعطى زخماً سياسياً لهذا الرفض، نظرا للمكانة التي تضطلع بها هذه المنظّمة العريقة في نفوس التونسيين، ولقيمتها الاعتبارية، ما يجعل معظم الملاحظين ينتظرون باهتمام تطورات جبهة الرفض لهذا المشروع، وردود الرئاسة المرتقبة، والتي يبدو أنّها لم تستوعب، للأسف، مفصليّة العدالة الانتقالية في مسار استكمال تونس مسار انتقالها الديمقراطي، خصوصاً أنّ ملف انتهاكات الديكتاتورية وتجاوزاتها الجسدية والمعنوية لا تحلّ بجرّة قلم، أو بقانون اشتغل عليه قانونيون في الدائرة القانونية الضيّقة لرئاسة الجمهورية، في انفصال تام عن عقود سوداء من تاريخنا المظلم، ذاق فيها آلاف من اليوسفيين (أنصار صالح بن يوسف) واليساريين والقوميين والإسلاميين ويلات التعذيب والقهر والتشريد والقتل، لن تمّحي من ذاكرة الضحايا والعائلات والجلادين، إلاّ بمصالحة حقيقية بين الضحية وجلادها، تطوي عذابات الماضي وتحررّ الجميع من ذكريات أليمة تكبلّ الالتفات نحو المستقبل والتعالي على الآلام وجروح الماضي.
والهدف من تحقيق هذه المصالحة هو أساسا الحرص على عدم تكرار مثل تلك الانتهاكات، في مجتمع قرّر الثورة على الاستبداد، ورفع راية الحريّة والكرامة. إنّها حركة يتصالح فيها المجتمع مع ذاته، مصالحة بين الخير والشرّ قصد التجاوز، مضيّاً نحو مستقبل أفضل، يتخلّص فيه المجتمع من أدران عقود من القمع. بإعادة ترميم ذاكرتنا المرهقة بعبء سنين من الظلم والقهر والتعذيب، والعمل على تجاوزها، عبر مصارحة حقيقية بين الجلاّد وضحيته، يتحررّ فيها كلاهما من عذابات جروحهما، ودون ذلك يصعب على أيّ مجتمعٍ، عاش حقب الديكتاتورية، أن يؤسّس لمستقبل مشرق.
يكشف الرفض الذي أثاره مشروع المصالحة كذلك أنّ بعض القرارات والمشاريع المفصليّة لا يمكن أن تدار بعقلية أغلبية فائزة وأقلية معارضة، ذلك أنّ المشهد التونسي لم يتخطّ كلّيا مرحلة الانتقال الديمقراطي، خصوصاً في قضايا مصيرية تهمّ التونسيين كافة، مثل قضية العدالة الانتقالية التي تتجاوز مجرد العفو عن بعض رجال الأعمال، وإبرام صلح معهم إلى تحقيق مصالحة فعلية، تطوي صفحات قاتمة ومظلمة من تاريخنا المعاصر بين الجلاد وضحيته، مصالحة تقوم على محاسبة من أخطأ وأجرم ونهب، ليس للتشفي والانتقام، وإنمّا للقطع مع تلك الانتهاكات وعدم تكرارها. ولا يكون ذلك إلا بعدالة انتقالية حقيقية، نابعة من متطلبات المجتمع وتطلّعاته، وليس من مشروع قانون مسقط من السلطة.
وتكشف صور تفريق الوقفات الاحتجاجية للشباب المتزعّم حملة "مانيش مسامح"، والتعامل الأمني المفرط معها، وجود هوة حقيقية بين جزء من المجتمع المدني والسلطة التي تشددّ على عدم قانونية التظاهر في حالة الطوارئ، بينما يصرّ الشباب المنظم للحملة على حقه في التظاهر والاحتجاج على مشروع "قانون المصالحة"، باعتبار عدم دستوريته، وضربه العدالة الانتقالية ومبدأ المساواة التي يكفلها الدستور، ومساهمته في توفير غطاء قانوني، يعفو عن جرائم رجال أعمال نهبوا المال العام، وأضرّوا بمصالح الدولة. كما يشمل مشروع القانون العفو عن أمنيين ممن تورطوا في التعذيب والانتهاكات الجسدية، وكذلك إدارييّن ساهموا في توفير حلول قانونية للفساد.
يشددّ رافضو مشروع قانون المصالحة الذي تقدمت به رئاسة الجمهورية على أنّ هذا القانون
وعلى الرغم من اختلاف عديدين مع رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، فإنّ معظم الحقوقييّن ونشطاء المجتمع المدني وعددا من رؤساء الأحزاب السياسية يرون أنّ الحملة على رئيسة الهيئة في ظلّ مطالبة برلمانيين التحقيق في شبهات فساد وسوء تصرف داخل الهيئة، هي، في الحقيقة، استهداف لمسار العدالة الانتقالية، خصوصاً في ظلّ الرفض القويّ لمجلس الهيئة لمشروع قانون المصالحة الذي قدمته رئاسة الجمهورية، معتبرين أنه يجب التمييز بين الأشخاص والهيئة التي يجب أن تبقى فوق الجميع.
ولم تنفع محاولات الرئاسة في الدفاع عن هذا المشروع، وكذلك الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي، في التخفيف من حدة معارضته التي تجاوزت الحراك الشبابي الحرّ، لتشمل معظم الأحزاب المعارضة التي اتفق جزء منها على تنظيم وقفة احتجاجية يوم 12 سبتمبر/أيلول الجاري، في تحدّ لقرار الحكومة بمنع التظاهر والمسيرات، تحت غطاء قانون الطوارئ. وعلى الرغم من فشل المعارضة في توحيد تحركها بإعلان الجبهة الشعبية عدم مشاركتها في هذه المسيرة، فإنّ المشروع المقدم من رئاسة الجمهورية نجح في توحيد المعارضة ومكوّنات المجتمع المدني، وجزء من شباب الثورة ضده.
وقد زادت تصريحات قيادات من الاتحاد العام التونسي للشغل رافضة تمرير المشروع، في
والهدف من تحقيق هذه المصالحة هو أساسا الحرص على عدم تكرار مثل تلك الانتهاكات، في مجتمع قرّر الثورة على الاستبداد، ورفع راية الحريّة والكرامة. إنّها حركة يتصالح فيها المجتمع مع ذاته، مصالحة بين الخير والشرّ قصد التجاوز، مضيّاً نحو مستقبل أفضل، يتخلّص فيه المجتمع من أدران عقود من القمع. بإعادة ترميم ذاكرتنا المرهقة بعبء سنين من الظلم والقهر والتعذيب، والعمل على تجاوزها، عبر مصارحة حقيقية بين الجلاّد وضحيته، يتحررّ فيها كلاهما من عذابات جروحهما، ودون ذلك يصعب على أيّ مجتمعٍ، عاش حقب الديكتاتورية، أن يؤسّس لمستقبل مشرق.
يكشف الرفض الذي أثاره مشروع المصالحة كذلك أنّ بعض القرارات والمشاريع المفصليّة لا يمكن أن تدار بعقلية أغلبية فائزة وأقلية معارضة، ذلك أنّ المشهد التونسي لم يتخطّ كلّيا مرحلة الانتقال الديمقراطي، خصوصاً في قضايا مصيرية تهمّ التونسيين كافة، مثل قضية العدالة الانتقالية التي تتجاوز مجرد العفو عن بعض رجال الأعمال، وإبرام صلح معهم إلى تحقيق مصالحة فعلية، تطوي صفحات قاتمة ومظلمة من تاريخنا المعاصر بين الجلاد وضحيته، مصالحة تقوم على محاسبة من أخطأ وأجرم ونهب، ليس للتشفي والانتقام، وإنمّا للقطع مع تلك الانتهاكات وعدم تكرارها. ولا يكون ذلك إلا بعدالة انتقالية حقيقية، نابعة من متطلبات المجتمع وتطلّعاته، وليس من مشروع قانون مسقط من السلطة.