وعلى الرغم من الهدوء النسبي الذي تعيشه الحدود بين البلدَين منذ أشهر، لا تزال أكثر من ثلاثين كيلومتراً من هذه الحدود غير خاضعة لسيطرة الجيش، إذ ينتشر مئات المقاتلين من المجموعات السورية في جرود البلدات اللبنانية الثلاث: القاع، ورأس بعلبك، وعرسال. وتعتبر هذه الجرود امتداداً طبيعياً وجغرافياً لمنطقة القلمون الغربي السورية، إذ بات حزب الله والنظام السوري يسيطران عليها بعدما نجحا في طرد المجموعات السورية منها لتأمين الطريق المؤدية من حمص إلى العاصمة دمشق.
وبناءً عليه، نفّذت عناصر من الجيش اللبناني، ليل الأربعاء ـ الخميس، هجوماً على أحد المواقع التابعة للمجموعات السورية في جرود رأس بعلبك، وتمكّنت من تدمير الموقع وقتل من فيه، بحسب ما أفادت تقارير أمنية. وانسحب عناصر الجيش من المكان بعدما سقط لهم قتيل في المعركة. وتفيد مصادر محلية لـ"العربي الجديد"، بأنّ حال التوتر سيطر على المنطقة مع استكمال استهداف مدفعية الجيش لتحركات بعض المجموعات الأخرى، تحسباً لأية ردة فعل للمسلّحين السوريين، وخصوصاً أن تلك المنطقة (رأس بعلبك والقاع) تسكنها غالبية مسيحية.
وفيما لا تزال التقارير الأمنية اللبنانية تذكر وجود مسلحين تابعين لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، يؤكد معنيون في أحوال الجرود لـ"العربي الجديد"، أنّ "داعش" سبق وانسحب من المنطقة قبل عام تحديداً. ففي مارس/ آذار 2015، أطلقت الماكينة الإعلامية والعسكرية لحزب الله "معركة القلمون"، ليبدأ تنفيذها في أبريل/ نيسان الذي تلاه. ومع بدء استعدادات الحزب لخوض تلك المعركة بهدف السيطرة على الشق اللبناني من القلمون الغربي، وإضعاف المعارضة السورية في المنطقة، انسحب مقاتلو "داعش" إلى جنوب حمص مخلّفين مجموعات صغيرة من المسلحين هم أبناء قرى القلمون، مثل قارة، والجريجير، ورأس المعرة، وغيرها.
وفضّل أبناء هذه القرى السورية البقاء في منطقتهم ومحاولة استعادتها للعودة إلى منازلهم، فانفصلوا عن "داعش" وباتوا يكوّنون مجموعات مستقلة عن أي تنظيم سوري. في حين لا تزال "جبهة النصرة" تحافظ على وجودها العسكري في الجرود اللبنانية، تحديداً لجهة عرسال، إذ تمكّنت من المحافظة على مواقعها وصدّ هجوم حزب الله المنظّم في يونيو/ حزيران تحت اسم "تحرير جرود عرسال". هي المعركة التي لحقت معركة "تحرير القلمون الغربي". وتشير المصادر المحلية إلى أنّ أعداد المسلحين السوريين في الجرود اللبنانية بالمئات، سبق أن خاضوا معارك في ما بينهم في صراعات على النفوذ والميدان، فضلاً عن الهجمات المتلاحقة التي كانوا يتعرضون لها من قبل حزب الله والجيش اللبناني.
اقرأ أيضاً: قتيل للجيش اللبناني في اشتباكات مع "داعش"
بعيداً عن الواقع الميداني، لا يفصل متابعون لوضع المؤسسة العسكرية، العملية الأخيرة التي نفّذها الجيش في رأس بعلبك، عن المستجدات السياسية المتلاحقة في لبنان، تحديداً المتعلّقة بوقف الهبة العسكرية السعودية للجيش وقوى الأمن الداخلي (بقيمة 4 مليارات دولار أميركي). وتوقّفت هذه الهبة بفعل الاحتجاج السعودي على موقف وزارة الخارجية اللبنانية والمواقف الصادرة عن حزب الله تجاه السعودية.
ويعتبر هؤلاء المتابعون أنّ "انتقال الجيش من موقع استهداف تحركات المسلحين على الحدود الشرقية إلى موقع الهجوم عليهم، رسالة واضحة من قبل القيادة العسكرية مفادها أنّ هذه المؤسسة ستستمر في عملها بغض النظر عمّا إذا وصلت المساعدات أم لم تصل". علماً أن الجيش هاجم موقع المسلحين وسيطر عليه وعاد وانسحب منه بعد ساعات، لإدراك القيادة العسكرية استحالة السيطرة الفعلية على مواقع جردية قاحلة مماثلة، في ظل غياب التقنيات والتعزيزات العسكرية المطلوبة.
هذا الأمر يعزّز هدف المؤسسة العسكرية في أن تكون العملية أشبه برسالة واضحة تفيد بأنّها عازمة على خوض المعارك تحت عنوان "الحرب على الإرهاب". فعنوان مماثل يعزّز أيضاً موقع الجيش اللبناني ويضعه على لائحة المستفيدين من الهبات العسكرية الغربية لمواجهة "الإرهاب"، إذ لا تزال الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما تقدم المساعدات العسكرية والتقنية للجيش تحت العنوان ذاته.
وما يؤكد وجود ردة فعل في قيادة الجيش اللبناني على القرار السعودي بوقف الهبات، التعديلات التي طرأت على الجسم العسكري قبل أيام، إذ تم تعيين مدير جديد للاستخبارات العسكرية في الجيش. وجاء المدير الجديد، العميد الركن كميل ضاهر، المحسوب على فريق 8 آذار سياسياً (الفريق اللبناني الحليف للنظامين السوري والإيراني)، ليعيد ترتيب البيت الداخلي للاستخبارات العسكرية، ويقوم بتعيينات أخرى في قيادة المناطق التي قالت قيادات في 14 آذار إنها "صبّت تماماً في خدمة حزب الله وقوى 8 آذار".
ولا يفصل متابعون هذه الخطوات عن وقف الهبة السعودية، خصوصاً مع تصاعد الحديث عن إمكانية لجوء وزراء في الحكومة اللبنانية إلى المطالبة رسمياً بالحصول على مساعدات إيرانية لتسليح الجيش. علماً أنه سبق للمسؤولين الإيرانيين أن عرضوا خدماتهم في هذا المجال على الدولة اللبنانية، وتم تجميد تلك العروض لبنانياً لعدم إرسال أي إشارة سلبية للسعوديين في مرحلة الهبة السعودية. وتأتي هذه الخطوات الأمنية لتثبّت خوف قيادات 14 آذار من أن يكون الانسحاب السعودي في موضوع الهبة، وما لحقه من مواقف عربية تصنّف حزب الله كـ"منظمة إرهابية"، مدخلاً جدياً لتسليم المؤسسات اللبنانية إلى الحزب ومحور حلفاء النظام السوري وإيران.
اقرأ أيضاً: الأزمة اللبنانية ــ السعودية: الأوراق المتبقية لخصوم حزب الله