فاجأ رئيس الحكومة التونسية المُكلّف، هشام المشيشي، أغلب الأحزاب السياسية في البلاد، بإعلان رغبته في تشكيل حكومة مستقلة تماماً عنها، تتكوّن من الكفاءات. وفسّر المشيشي خياره مساء الإثنين، بأن التجاذبات بين الأفرقاء السياسيين كبيرة، ما يُصّعب الوصول إلى اتفاق، وبالتالي فإن طرحه هو الاختيار الأمثل. وأضاف رئيس الحكومة المُكلّف، خلال مؤتمر صحافي لم يتجاوز بضع دقائق، أن المسؤولية والواجب يفرضان المضي إلى حكومة إنجازٍ اقتصادي واجتماعي، لا تكون رهينة التجاذب السياسي، وتتوفر في أعضائها شروط النزاهة والنجاعة، وتكون قادرة على العمل في تناغم لتحقيق برنامجها، مؤكداً أن الخلافات بين الأحزاب كبيرة، فيما الظروف الاقتصادية صعبة، ونسبة النمو سلبية، والمديونية عالية، والبطالة قد تتجاوز 19 في المائة في أفق 2020.
توحدت الأحزاب والكتل، التي كانت شقتها الخلافات على مدى أشهر، على رفض طرح خيار الحكومة المستقلة
من جهتها، جاءت أغلب ردود الفعل الحزبية رافضة لهذا الخيار، وتوحدت الأحزاب والكتل، التي كانت شقتها الخلافات على مدى أشهر، على رفض هذا الطرح، وتداول مسؤولون في "النهضة" و"ائتلاف الكرامة" وحركة "الشعب" و"التيار الديمقراطي" على الإذاعات مباشرة بعد ندوة المشيشي، تأكيد رفضهم لحكومة مستقلة.
ولا يبدو هذا الموقف من المشيشي مفاجئاً، فقد ألمح شكل مشاوراته على مدى أسبوعين، بأنه يسير في هذا الاتجاه، وتوقعت دوائر عدة منه أن يُخرج مشروعه ويطرحه على الطاولة في آخر لحظة، لفرض الأمر الواقع على أحزابٍ نهشتها وأضعفتها الخلافات إلى درجة كبيرة.
وقالت مصادر حزبية لـ"العربي الجديد"، إن المشيشي التقى يوم السبت الماضي رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، وعرض عليه توجّهه، محاولاً إقناعه به، لكن رد "النهضة" كان واضحاً بالرفض. وأكد رئيس مجلس شورى الحركة عبد الكريم الهاروني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "النهضة" ترفض تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، وتدعو رئيس الحكومة المكلف إلى تكوين حكومة وحدة وطنية ذات حزام سياسي يستجيب للتوازنات البرلمانية. وبيّن الهاروني أن القاعدة الأولى لتجنّب الفشل السابق هي احترام نتائج الانتخابات، مشدداً على ضرورة الاتعاظ من التجارب السابقة، وعلى وجود ميثاق سياسي يمكّن الأحزاب من العمل في إطار شراكة حقيقية. ولفت المسؤول الحزبي إلى أن التونسيين انتخبوا، ولا بد من تصحيح الأمور والعودة إلى الأحزاب واحترام نتائج الانتخابات مع الاستفادة من الكفاءات في الإدارة، التي لن تكون بديلة عن الأحزاب، وتحرمها من حقها في ممارسة الحكم.
وكان رد "النهضة" بأغلبية كبيرة وإجماع داخل الشورى حول هذا الموقف، وفق ما نقله قيادي في الحركة لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أن هذا البند لم يحتج إلى كثير من المداولات في الاجتماع، بما يؤكد أن خيار الحركة واضح بهذا الخصوص.
وسيحاول المشيشي إقناع بقية الأحزاب بجدوى خياره، لكن المهمة تبدو صعبة في ظلّ الرفض الواسع، مع أن رئيس الحكومة المُكلّف أكد خلال مؤتمره الصحافي المختصر، على أن خيار حكومة الكفاءات هو "الخيار الأمثل" وليس النهائي، ما يترك الباب مفتوحاً نسبياً للتفاوض.
وينطلق المشيشي في موقفه من قراءة واضحة للأوضاع، في ظلّ ساحة حزبية متناحرة وبرلمان مشتت وانقسام حاد بين مختلف الأفرقاء، كان يتوقع أنه يمكن المرور عبره واللعب على تناقضاته، وفي ظرف دستوري دقيق لا يمنح هذه الأحزاب خيار الرفض، إلا إن كانت مستعدة لحلّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات جديدة. ويبدو المشيشي كذلك مستنداً إلى دعم من المنظمات المهنية الكبرى، ومن الرئيس قيس سعيّد، إذ أكد رئيس منظمة رجال الأعمال، سمير ماجول، قبل تصريح رئيس الحكومة المكلف، على ضرورة الطرح ذاته، معتبراً أنه الحل الوحيد للأزمة الاقتصادية التي تستوجب "حكومة إنقاذ"، معتبراً أن الكفاءات الاقتصادية معروفة في مختلف المجالات، وهو ما كرره المشيشي حرفياً تقريباً.
وفي قراءة لتطور الأحداث، لفت المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن المشيشي أدار مشاورات شكلية حول طبيعة الحكومة وتركيبتها، وبقي أسبوعين يخلع أبواباً مفتوحة على مصراعيها لتبرير إعلان قرار مُسبق منسق مع رئيس الجمهورية يتمثل في "حكومة تكنوقراط" أو حكومة "مستقلين" أو حكومة "كفاءات غير حزبية". وأضاف أنه "مهما تعددت أسماء الحكومة فالنتيجة واحدة، وهي حكومة مبنية على أنقاض الأحزاب، تقوم من فشل الأخيرة وضعفها، وسقاها الرئيس التونسي من عصارة رفضه للكيانات الحزبية".
يقود سعيّد والمشيشي السلطة التنفيذية إلى صدام ومواجهة مجهولة العواقب مع السلطة التشريعية
ورأى المؤدب أن "المشيشي أطلق بالون اختبار قد ينفجر في وجهه قريباً، غير أنه يمكنه أن يتداركه بكفاءات حزبية غير معروفة من الصف الثالث لضمان الاستقرار والهدنة السياسية، بعدما قضى نصف الأجل المخصص لتشكيل الحكومة في السخرية من الأحزاب العاجزة وقتياً عن مجابهة هذا التنمر السياسي". واعتبر أن صدى ما قام به رئيس الحكومة المكلف "قد تكون ارتداداته موجعة بعد حصوله على الثقة بأشهر قليلة، هذا إذا سلّمنا جدلاً بأنه سيحصل على ثقة البرلمان الرافض لمسار تقزيم الأحزاب البرلمانية على الرغم من تناقضاتها".
وشدّد المحلل السياسي على أن حكومة المشيشي "آيلة للسقوط في حال أقصت الأحزاب، وستكون مهددة بمصير مشابه لحكومتي الحبيب الجملي وإلياس الفخفاخ"، مضيفاً أن "المشيشي يعتقد أن حصول حكومته على الثقة سيكون محتوماً ومضموناً، بخيار الهروب إلى الأمام وحلّ المشاكل وفق طريقة النعامة، لكن كان من الأفضل في ظلّ خلافات الأحزاب والكتل تقريب وجهات النظر بدل إقصائها للتخلص من مشاكلها واختلافاتها". ورأى المؤدب أن سعيّد والمشيشي "يقودان السلطة التنفيذية إلى صدام ومواجهة مجهولة العواقب مع السلطة التشريعية"، مشيراً إلى أنهما "يسيران بثبات نحو السيناريو الخطأ على مسار الانتقال الديمقراطي، وهو إنتاج حكومة حرب على الأحزاب والبرلمان، في سياق مشروع تغيير الشرعية المنشود، بتنزيل أسس الحكم الرئاسي في نظام برلماني معدل".
أمام هذا الوضع، يدخل المشيشي في مغامرة تهدد مستقبله السياسي الشخصي، لأن مواجهة الأحزاب لا يمكن أن تنجح على المدى المتوسط والبعيد، فقد أكدت هذه الأحزاب، على الرغم من كل خلافاتها، أنها انتُخبت لتحكم وليس لتزكي حكومة مستقلين، لأن مصادقتها على ذلك يعني إقرارها بفشل المنظومة الحزبية. هذا الواقع يدعو إلى التساؤل إن كانت الأحزاب ستقفز فوق خلافات التموقع غير المجدية بعد أن بدأت تتأكد أن السلطة تميل إلى قصر الرئاسة في قرطاج، وتتسرب من قصر البرلمان في باردو، الذي سيُصبح مجرد تابع أو كومبارس في ضوء المتغيرات الجديدة.