رياح ساخنة على لبنان
يمكن القول إن السياسة، التي انتهجتها الحكومة اللبنانية، تحت عنوان النأي بالنفس، وكرّسها إعلان بعبدا في عهد الرئيس السابق، ميشال سليمان، لم تنفع بشكل كافٍ لتجنيب لبنان الرياح الساخنة في المنطقة، خصوصاً في ظل التورط المعلن والصريح لحزب الله في القتال إلى جانب النظام السوري، أو بعض الأفراد في القتال إلى جانب المعارضة، مما جعل هؤلاء، أحزاباً أو أفراداً، يطيحون بإعلان بعبدا، ويسقطون سياسة النأي بالنفس، وهو تالياً ما جعل لبنان في قلب المسألة السورية، لا ينفك عنها، يتأثر بها ويؤثر فيها. ومن هنا، وجد السوريون أنفسهم "مضطرين" إلى نقل معركتهم، لو جزئياً، إلى لبنان، فطائرات النظام ما انفكت تغير على جرود بلدة عرسال تارة، وتقصف مدفعيته البلدات الحدودية في عكار طوراً آخر، من ضمن ما يعتبره حقاً بالرد على تحرك "المسلحين" في تلك المناطق. وبدأ الثوار يلتفتون إلى الحدود، أيضاً، من أجل نقل المعركة إليها، أو حتى إلى الداخل اللبناني من ضمن سياسة الرد على "الصاع بالصاع"، وقد لاحظنا كيف أنهم هاجموا، قبل أيام، نقطة لحزب الله في جرود بلدة بريتال الحدودية. وهكذا، تتحول الحدود إلى مسرح للعمليات شيئاً فشيئاً، وهكذا تنتقل النيران، تدريجياً، من الحدود إلى الداخل، بما يهز الاستقرار العام، وبما يحوّل لبنان إلى مسرح جديد وآخر للمواجهات التي تجري في المنطقة.
إذن، مهاجمة مقاتلي جبهة النصرة موقعاً لحزب الله في تلك الجرود رسالة واضحة مفادها بأن المواجهة ليست مع الجيش اللبناني، بل مع حزب الله تحديداً، وبأن من يشن هجوماً على الحدود في وسعه أن ينقل المعركة، لاحقاً، ولو جزئياً إلى الداخل.
المؤشر الآخر، الذي يشي بأن الرياح الساخنة بدأت تهب على لبنان، الحديث المتزايد والمتواصل عن إمكانية أن يسيطر الثوار السوريون على المناطق الحدودية، من الجهة اللبنانية الممتدة من منطقة العرقوب في الجنوب، وصولاً إلى منطقة البقاع الأوسط في بلدة سعد نايل، والتي تضم أقضية حاصبيا وراشيا والبقاع الغربي، وهي مناطق تعد بيئات متعاطفة مع ثورة الشعب السوري.
وبالتالي، فإنها لا يمكن أن تكون مناطق مواجهة مع أي تحرك لثورة الشعب السوري باتجاهها، خصوصاً في ظل الاحتقان السياسي والطائفي، الذي يحمّل حزب الله مسؤولية كل ما يجري للساحة اللبنانية، بعد تدخله بالقتال إلى جانب النظام السوري. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن الثوار السوريين باتوا على مقربة من دمشق، من جهة المقلب الشرقي لجبل الشيخ، حيث باتوا يسيطرون على معظم المناطق والقرى، التي تصل إلى مشارف بلدة جديدة يابوس، حيث يقع المنفذ البري إلى دمشق.
المؤشر الثالث، الذي يشي بهبوب هذه الرياح الساخنة على لبنان، تصريحات قائد الجيش، العماد جان قهوجي، الذي كشف عن أن مخطط "المسلحين" قد يكون العمل من أجل إيجاد منفذ بحري لهم على البحر المتوسط، بالسيطرة على مناطق الشمال وعكار ووصلها بالقلمون وبقية الداخل السوري؛ ولا يمكن لقائد الجيش أن يصرّح بذلك، لو لم يكن يملك معلومات ومعطيات حول الموضوع. وهنا برزت أحداث تؤكد بعض هذه المعلومات، منها، على سبيل المثال، عمليات استهداف أفراد وعناصر في الجيش اللبناني في طرابلس وعكار والمنية.
المؤشر الأخطر والأبرز، الذي يمكن أن يؤكد أن الرياح الساخنة بدأت تهب فعلاً على لبنان، هو الكشف عن زيارةٍ قام بها أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، إلى البقاع واللقاء الذي جمعه بقادة الحزب وكوادره هناك، وفقاً لما نقلته جريدة السفير اللبنانية (عدد 2014/10/14)، مما يؤكد أن الحزب يستشعر خطورة المرحلة المقبلة، أو أنه، فعلاً، بات يعيش أزمة كبيرة على مستوى قواعده وجمهوره في البقاع الشمالي. ولذلك، ربما تكون الزيارة تحضيراً لتحرك كبير، قد يقوده الحزب في المنطقة، ليقطع الطريق على أية محاولة للسيطرة على الشمال، أو حتى على البقاعين، الأوسط والغربي، وصولاً إلى شرق الجنوب، لأن من شأن ذلك خنق الحزب، وتحويله من قوة محاصِرة إلى قوة محاصَرة مع ما يعنيه ذلك من تحول من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع، ومن عدم تركيز على الداخل السوري وإعادة التموضع في الداخل اللبناني. وفي كلا الحالين، ستكون الرياح الساخنة قد تحوّلت، أيضاً، إلى لهيب يحرق البلد.
الفرصة، التي يمكن أن تجنّب لبنان هذه الرياح الساخنة، وتالياً اللهيب المتوقع، تكمن في العودة إلى سياسة تجنّب الأزمات والاصطفافات الإقليمية الحادة، والانسحاب من سورية، بشكل سريع، وترك الدولة تقوم بمسؤولياتها، انطلاقاً من عدم التورط في الوحول السورية، وإلا لن يتمكن لبنان من الوقوف في وجه هذه الرياح الساخنة، التي قد تتحول إلى عاصفة من اللهيب، في أي وقت.