زمن الحاجات وتهاوي العقائد

18 ابريل 2015

راؤول كاسترو وأوباما في القمة الأميركية في بنما (11أبريل/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

اختار اليونانيون "الثورة" الانتخابية في يناير/كانون الثاني الماضي، على قاعدة أن "إنقاذ البلاد من الإفلاس وشروط الاتحاد الأوروبي يكمن في اختيار فئة حاكمة قادرة على قلب المعطيات". وزاد اعتقادهم مع إيحاء تلك الفئة، حزب "سيريزا"، أنها قادرة على تغيير المصير المحتّم للشعب اليوناني. مرّت ثلاثة أشهر على تلك "الثورة" الحالمة، لتجد أثينا نفسها على أعتاب تنفيذ كل مقررات الاتحاد الأوروبي وبنوده التقشفية، مع تعديلات بسيطةٍ، لا تمسّ جوهر الشروط، تحت عنوان "الحاجة". أي أن "سيريزا" وقع في فخّ المصارف الأوروبية، وخلفها ألمانيا، في إطار حاجته إليها، كما كان حال أسلافه في الحكم في السنوات الخمس الأخيرة.

الحاجة نفسها دفعت الولايات المتحدة وكوبا لطيّ صفحة الماضي، وإنهاء نصف قرن من العداء. رُفعت العقوبات عن هافانا، كما أُزيل اسمها من لائحة "الدول الداعمة للإرهاب". حتى الآن، تبدو الحاجة أقوى من العقائد، فالعقائد وُلدت أساساً من رحم الحاجة. بالتالي، لن تُصبح أكثر قوة منها، في حال تبدّلت الحاجات الأساسية. الحاجة نفسها التي حتّمت على الاتحاد السوفييتي، العقائدي، مشاهدة افتتاح أول مطعم ماكدونالدز في موسكو، قبل أن يطويه التاريخ، تفرض على اليونان وكوبا، التراجع أمام سطوة "الرأسمالية"، المنتصرة، حتى إشعار آخر. وستكون "الحاجة" نفسها سبباً للتراجع، أو التقدّم، على مختلف المحاور الساخنة عالمياً، من شرق أوكرانيا إلى الملف النووي الإيراني، مروراً بملفات سورية واليمن وليبيا، وإلى حدّ ما مصر، وما بينهما من كوريا الشمالية وتحدّيات أفغانستان وباكستان.

وإذا كانت "الحاجة" أيام السوفييت، قد تجسّدت بـ"العقائد" المزيّنة بالحرية، التي تُمثلها "الروح الغربية" من لباس وطعام وموسيقى وغيره، لا العقائد ذات الطبيعية الأقرب إلى "التضحية الفردية"، فإن الحاجة باتت حاجات هذه الأيام. ليس أولها سعي دول عدة إلى أداء دور أكبر من قبل، في سياق محاولتها تكريس نفوذها الإقليمي، أو القاري، بين دول مجاورة. عملية عاصفة الحزم نموذجاً. وليست آخر "الحاجات"، تلك المتعلقة بإبراز دور إقليمي "قوي"، يناهز أدوار تجمّعات إقليمية أخرى، كاتحاد دول جنوب شرق آسيا "آسيان"، أو "الاتحاد الأوراسي الاقتصادي" الذي أسسته روسيا، أو الاتحاد الأوروبي.

ولا يُمكن، في هذا الصدد اعتبار أن اختلاف الحاجات، أو تعددها، يتخطى إطار "تقاطع المصالح"، لا بل إن "الحاجة" التي تجمع دولاً محددة، قد تنتفي بعد تحقيق أغراض "تقاطع المصالح". في حالة الحرب الباردة، كانت الحاجة واحدة فقط، من شواطئ كاليفورنيا إلى تخوم برلين الغربية، أما الآن، فلواشنطن "حاجتها" وللندن "حاجتها" ولبرلين "حاجتها". وينطبق الأمر أيضاً على كل التحالفات التي نشأت بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة، ويُمكن القول إنها تطورت حتى، بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول الأميركي.

ويُمكن لمطلق "حاجة" أن يستفيد، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من الدفق الديني والإثني، الذي يرفدها بعناصر ديمومتها، وقد يصل الأمر إلى ترسيخ الانقسام العمودي داخل البلدان نفسها، في ما يُشكّل نوعاً من خرق الخصوصية القومية التي قد تكون عقلانية، أحياناً، لمصلحة فعل غرائزي غير عقلاني.

في الحالتين، اليونانية والكوبية، بدا واضحاً أن البلدين، وعلى طريقتهما، اكتشفا أن "الحاجة" تنبع من فعل غرائزي يدفع الإنسان إلى اختيار ما تُمليه عليه عواطفه أو انفعالاته، لا عقله. اكتشفت كوبا الأمر متأخرة جداً، بعد أكثر من 59 عاماً على جنوح مركب "غرانما" الذي كان يقلّ الثوار، في مقدمتهم الأرجنتيني تشي غيفارا، بينما تداركت اليونان الوضع سريعاً، في سلوكيات أقرب إلى "السياسة الواقعية". لم تعد الاشتراكية في هذا الوضع مجرّد "حتمية" سيؤول إليها العالم، إلا في حال تحوّلت إلى حاجة، ويبدو الأمر مستبعداً على المدى المنظور، في ظلّ تصاعد العصبيات الطوائفية والإثنية، في مختلف بقاع العالم.

دلالات
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".