قد يستغرب كثيرون اليوم، عندما يشاهدون زواج شاب من المغرب العربي من عجوز أوروبية، وحجم الإقبال لدى هؤلاء الشباب على الزواج من الأجنبيات كبيرات السن، وبحثهم "المحموم" عن هذا النوع من الارتباط انطلاقًا من الشواطئ والفنادق وصولًا إلى منصّات التواصل الاجتماعي. في هذا المقال نبدأ في سرد الحكاية من البداية.
على مدى عقود من الزمن، ومنذ فجر الاستقلال في كثير من بلدان المغرب العربي، مثلت أوروبا بالنسبة للشباب العربي ملاذًا من أوطانها التي تتخبّط في الفقر والبطالة وتعيش مرحلة البناء الذي لم يكتمل إلى الآن، فكثير ممن كان يذهب إلى أوروبا لا يعود منها إلا صاحب باع وذراع منسلخًا عن شرنقة الهم والغبن التي تضيق شيئًا فشيئًا على أبناء حيّه ووطنه بصورة أشمل.
عند هذه النقطة بُنيت صورة ذهنية ما فتئت تزداد ترسخًا كلّما ازدهرت القارة العجوز أكثر واتسعت الهوّة مع دول المغرب العربي بشكل أعمق، مفادها أن الهجرة إلى الضفّة الأخرى واجتياز البحر وسيلة عبور من حياة البؤس والشقاء إلى حياة الرغد والرفاه التي كانت من أهم مقوّماتها سيارة فارهة ومنزل بطابقين.
الهجرة كـ مصعد اجتماعي
في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، كان الوصول إلى أوروبا لا يقتضي سوى قطع تذكرة سفر لا أكثر لعدم فرض تأشيرات سفر في أغلب دول القارة التي كانت تحتاج أعدادًا هامة من العمالة الأجنبية لإعادة بناء اقتصادها المتضرّر من الحرب العالمية الثانية. وبذلك مثلت أوروبا وجهة ممتازة للمهاجرين الذين لم يكونوا بالجرأة نفسها على مغادرة الأهل والبلد وخوض المغامرة في بلاد القوى التي كانت تستعمرهم، كما أن الظروف الاقتصادية كانت أفضل مما عليه الآن بسبب طبيعة حياة المجتمعات المغاربية التي كانت متعوّدة على الحياة البسيطة.
ولكن مع تقدّم الزمن في هذه الدول والتغيّرات الهامة على مستوى البنى الاجتماعية والأنظمة السياسية والصعوبات الاقتصادية التي شهدتها حينها تونس والمغرب والجزائر، بدأت الأمور تتعقد أكثر فأكثر ما دفع بهذه المجتمعات إلى الانخراط في العولمة و بداية المرحلة الفعلية للابتعاد عن الفلاحة التي نجم عنها فقدان قوة التشبث بالأرض والمسكن المشترك والعائلة الممتدة، علاوة على عودة الدفعة الأولى من المهاجرين إلى أوطانهم بمظاهر الثراء، ثراء أوروبي أكثر جاذبية وكياسة.
ولكن في الوقت الذي أيقن فيه الشاب المغربي (أي من المغرب العربي) أن الحل الأسهل للصعود هو الهجرة إلى أوروبا، جنّة الأرض وملاذ المسحوقين في أوطانهم بدأت تظهر التضييقات على تنقّل المهاجرين وأصبحت الهجرة حلمًا صعبًا. ولكن طالما أن كل ممنوع مرغوب فيه، فإن الهجرة صارت هاجسًا ملازمًا للشباب وتحوّل مشهد ابن الحي العائد من أوروبا صحبة شقراء في سيارة فارهة محملة بالحقائب الهدف الذي يطمحون إليه.
في نهاية التسعينات، صار البقاء في بلدان المغرب العربي -بالنسبة لأبنائها- ورطة يجب الخروج منها. حيث كانت تسحقهم البطالة ويأكلهم الفقر وتحوّل التفكير في حلّ داخل الوطن أشبه بالصيد في بئر. من هنا ظهرت كلمة "الحَرقة" أي اختراق الحدود واجتيازها بطريقة غير قانونية لبلوغ إيطاليا وإسبانيا وفرنسا على وجه التحديد. رغم أن العملية كان نصفها انتحار باعتبار أنها كانت عبارة عن الارتماء في البحر بقوارب صغيرة لا تستطيع مجابهة الأمواج العالية، ودون أية معدات تأمين أو سلامة وبمبالغ عالية تتجاوز الألف دولار حينها، إلا أن الشاب العربي في المغرب العربي كان مستعدًا للمغامرة بحثًا عن أحلام لا تتعدى أن تكون مجرّد حقوق في دول أوروبا الغربية.
الزواج كطريق للهجرة المقننة
ولكن بالنظر إلى عدم شرعية هجرة هؤلاء المهاجرين أو "الحَرّاقة" كما يطلق عليهم في تونس والجزائر والمغرب لعدم تمتّعهم بوثائق الإقامة كان يتعيّن عليهم البحث عن "شرعنة" تواجدهم في "القارة الشقراء" كي لا يضطروا إلى التخفي والاشتغال في ظروف صعبة أو حتى في تجارة الممنوعات. وبحثًا عن "شرعن"ة الوجود الذي كان يصعب تحقيقه وجد الشاب المغربي طريقًا أقصر وأكثر مردودية ولا يستوجب منه في كثير من الأحوال المخاطرة بنفسه في رحلة محمومة عبر البحر. الحل ينطلق من هنا، الارتباط بأوروبية.
الفتاة الأوروبية لم تكن هدفًا بل وسيلة لتحقيق مآرب أخرى، وكانت الهجرة مصعدًا اجتماعيًا، ما يفسّر إقدام الشباب على الزواج بمسنات أوروبيات يمنحونهن الحب والمتعة مقابل تحقيق الرفاه المادي والوثائق اللازمة للإقامة والعمل، واستبدال الاتكاء على جدران الأحياء الشعبية بممارسة كل أشكال الترف في ملاهي أوروبا.
في تونس مثلًا، توجد نكتة شعبية مشهورة جدًا بخصوص الارتباط بعجائز أوروبا، تقول إنه بينما كان أحد الشباب ينزل درج إحدى السفارات الأوروبية برفقة عجوز أوروبية تزوّجها حديثا، إذ بها تقع بسبب كبر سنها وهشاشة عظامها، فالتفت إليه شاب آخر كان قريبًا منه وخاطبه بأن يجمع أوراقه التي سقطت، في إشارة إلى العجوز.
هذه النكتة تفسّر باختصار إقبال الشباب المغربي على الزواج من الأجنبيات، وإن بلغن من الكبر عتيًا، هربًا من شبح البطالة التي ترزح على صدور 27% من المتعلّمين فقط في العالم العربي واقتداءً بمن خرجوا قبلهم على قوارب خشبية وعادوا على متن البواخر السياحية.
الهجرة إلى أوروبا تحوّلت الى موضوع أغاني "الرّاي" الجزائري و"الراب" في تونس من خلال أغان مثل "يا البابور" للمغني الجزائري رضا الطلياني والذي يناجي فيها السفينة أن تخرجه من الفقر والمحسوبية التي يعانيها في بلاده، ويعبر بها البحر نحو أوروبا.
الزواج إذن من الأجنبيات هو نقطة العبور الأخرى عبر المطارات والموانئ التي يبحث عنها الشاب في المغرب للهجرة إلى أوروبا على وجه التحديد، حيث يمكنه تحقيق طموحاته بعيدًا عن وطنه، الذي لم تعد حتى الدراسة فيه صمّام أمان لضمان وظيفة وحياة كريمة مثل السابق.
البلدان العربية تضيق بشبابها بسبب مشاكل الفقر والاقتصاد والفساد وأوروبا وإن كانت اليوم تعاني أيضًا من مشاكل البطالة والتقلبات الاقتصادية إلا أنها لا تزال في أعينهم أرضًا خصبة للطموح وتحقيق أحلامهم في الزواج وامتلاك سيارة ومنزل وعملًا قارًا بحفظ مكانتهم الاجتماعية.