زوبعة فراس السواح

19 يناير 2019
+ الخط -
يعتبر الحجاب قضيةً حاضرةً على ساحة السجالات والنقاشات والخلافات والاختلافات بشكل دائم، وبزخم لا يخلو من التطرّف والعصبية بين مؤيدٍ ومعارض. وقد أثارت هذه القضية المجتمع الإسلامي منذ عقود طويلة، بداية من الفقهاء والمشرعين، ثم المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع ومشايخ الدين، حتى صار قضية إشكالية، وأصبح كل فرد معنيًا إما باتخاذ موقف نقدي منه أو مناصر له ومتمسّك به.
من يتابع السجال الحامي في صفحات التواصل الاجتماعي منذ أيام، بسبب نص كتبه الباحث السوري فراس السواح في صفحته على "فيسبوك"، يعلن فيه أنه لا يقبل طلب صداقةٍ من محجباتٍ، لأن حجاب الرأس يعني حجاب العقل، يمكنه أن يعرف العوز الشديد لـ"أنزيم" الحس النقدي والفكر النقدي في مجتمعاتنا. المأخذ الوحيد الذي يُؤخذ على السواح في نصه هو التعميم، وهو باحثٌ وموضوعيٌّ، ويعرف تمامًا أن التعميم مرفوضٌ في مجالات كهذه. ولكن ربما كتب نصه تحت تأثير حالة انفعالية عالية، حمله رأيًا كان من الأجدر ممن تصدّوا له، وفتحوا جبهاتٍ استخدموا فيها كل أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، عازمين على نسف فراس السواح، وكل منتجه الثقافي التنويري الذي ساهم، وعلى درجة عالية، في ملامسة وعي الناس، وإثارة الأسئلة بشأن قضايا فكرية وتاريخية ودينية وثقافية، كان الأجدر بهم أن يعتبروا النص فرصةً لنقاش قضية تبقى حاضرة للنقاش، على الرغم مما كتب عنها، وعلى الرغم من كل السجالات التي دارت حولها.
هناك أصول للحجاب في التاريخ، كما تشير كتب عديدة، وكما يرى باحثون كثيرون. وهناك شروط اجتماعية وسياسية وثقافية وتاريخية، حكمت (أو فرضت) على المرأة ارتداء الحجاب، إذ لم يكن شأنًا دينيًا خالصًا في الماضي، بل ارتبط بالحالة السياسية للممالك والشعوب، وبالحالة الاجتماعية، فقد كان، على سبيل المثال، علامة تمايز طبقي لدى الآشوريين، فالنسوة الحرائر كن يرتدين عباءةً تكشف الوجه فقط، عند الخروج، فيما فرض على الإماء السفور، لتمييزهن عن النسوة الحرائر. وفي بعض الحالات، كان تدبيرًا يُمارس على المرأة، أو عرفًا اجتماعيًا في مجتمعاتٍ لا تحظى فيها المرأة بمكانةٍ عليا في المجتمع، وليس لديها حقوق، كما في الصين 
والحضارات الآسيوية قديمًا.
أما لماذا تزداد وتيرة السجال بشأن الحجاب في العقود الأخيرة بين مدافعٍ بتطرّف ومناهض أو رافض له بالمجمل، فهذا نتيجة حتمية للصراعات العالمية والإقليمية والمحلية، ونتيجة الاستكبار الذي تمارسه الأنظمة القوية تجاه الشعوب والدول الضعيفة، كذلك نتيجة الاستبداد الذي ابتُليت به الشعوب، خصوصاً في منطقتنا العربية بعد نيْلها الاستقلال من المحتل الأجنبي، وإجهاض مشاريع النهضة التي كانت الهم الأكبر للشعوب الحاصلة على استقلالها، والساعية في طريق تحقيق طموحاتها. وقد كانت قضية المرأة وتحريرها من قيد إرثٍ ثقيلٍ، ديني واجتماعي، يقصيها عن المجال العام، ويسلبها حقوقها، قضيةً محوريةً وتشكل شاغلاً مهما من شواغل المشروع النهضوي، في تلك الفترة التي لا تعتبر بعيدةً جدًا في المنطق الزمني لعمر الشعوب، لم يكن الحجاب شأنًا دينيًا بالمطلق، بل تداخل الديني بالاجتماعي في شيوعه زياً تقليديا للنساء، لكنه كان من حوامل المشروع الطامح بنيل المرأة حقوقها ومساواتها بالرجل، من حيث الاعتراف بها أولاً، كفرد يمتلك حرية الإرادة والقرار.
أما الآن، وبعد تعاظم دور الدين، والإسلام السياسي تحديدًا، خصوصًا في سنوات ما سمي الربيع العربي، وحجم العنف الذي مورس على الشعوب التي وعت ذاتها في لحظةٍ تاريخيةٍ، وانتفضت من أجل كرامتها وحقوقها المنتهكة، فتدخلت في شأنها قوى إقليمية ودولية، أدارت نزاعاتها وصراعاتها فوق أراضينا، فدمرت بلداننا وشرّدت شعوبنا، وازداد الشعور بالقهر والظلم والخذلان. وبعد أن كانت الهزائم المتلاحقة قد تمكّنت من الوجدان العام، مواكبةً لبلوغ الشعور القومي ذروته، ابتداءً من نكبة 1948، مرورًا بنكسة حزيران، تنامى الشعور الديني، وتمكّن أكثر من حياة الناس، وصار الدين ملاذًا لهذه الشعوب المقموعة المخذولة، مسلوبة الإرادة والقرار. ترافق هذا مع تمكين الدين والجماعات والتنظيمات الدينية في ساحات السياسة وتهافتها، لأن تستلم قيادة "الدول والمجتمعات"، بدلاً من أحزابٍ وأنظمةٍ صادرت هذين المجالين، تحت شعارات الديموقراطية والعلمانية والعدل والمساواة والحقوق، في الوقت الذي لم تقدم لشعوبها غير القمع ومصادرة الرأي، وكبت الحريات وتضييق العيش عليها. تنامت الظاهرة الدينية، وتنامى معها التمسّك بالهوية الدينية، بشعائرها وطقوسها ورموزها. وصار الحجاب رمزًا قويًا إشهاريًا دالاً على انتماء اجتماعي سياسي، حتى لو لم تكن كل الشرائح الاجتماعية التي تعتمده، وتتمسّك به فرضا دينيا ورمز انتماء، ترتبط بحركات سياسية، أو تنظيمات ساعية إلى السيطرة على المجال السياسي، لكن تجربة الإسلام السياسي التي أخفقت، والحركات الأصولية التي مارست العنف بأعتى أشكاله، وطرحت أجنداتها الشمولية الإقصائية، جعلتا من الحجاب ظاهرة مرفوضة لدى شرائح عديدة من المجتمع، باعتباره يمثل هويةً جامعة للإسلام السياسي بمختلف أطيافه، والذي لم يقدّم ما يطمئن الشعوب تجاه مستقبلها، ويشكل نكوصًا نحو الماضي، ورجوعًا عن المكاسب التي حققتها في مجال الحريات، ومنها تحرّر المرأة، حتى لو كانت مكاسب لا تقترب من النموذج الذي سعت إلى تحقيقه.
لم يستطع العرب المسلمون هدم جدار الانغلاق، والانفتاح على باقي الثقافات، بل ارتفعت وتيرة شعار "الإسلام هو الحل"، والمناداة بـ "تطبيق الشريعة" التي كانت المرأة أولى ضحاياها 
وأكبرها، مع ازدياد وتيرة العنف وانسداد الأفق في وجه الشعوب المنتفضة التي دُفعت باتجاه الحروب البينية والأهلية التي كان للإسلام السياسي دور كبير في تأجيجها، مثلما كان للأنظمة السياسية الأخرى والقوى المتحالفة معها أو الداعمة للفصائل المعارضة دورٌ في تأجيجها.
عودة الحجاب بهذا الزخم، تزامنا مع الحراك السياسي، والزلازل التي تصدّع أركان الدول والشعوب والمجتمعات في المنطقة، وتنامي الحركات الإسلامية، بتدرّجات طيفها بين معتدلة وأصولية عنفية، من المتوقع أن تصبح قضية خلافية بالغة التعقيد والحساسية، في مرحلة إشهار الهويات العقائدية والإيديولوجية التي يجمعها قاسم مشترك متين، هو مصادرة المجال العام، وفرض الأجندة الخاصة ولو بالقوة، وجميعها مارست العنف بأقصى أشكاله، لكن المؤسف أن يكون التهتك المجتمعي والثقافي وصل إلى هذه المرحلة المخيفة، عندما يصدح الجميع بشعارات الحرية وحرية القول والرأي، بينما لا أحد يقبل من الآخر المختلف رأيًا ويطرحه للنقاش، بل الكل يصبح ديّانًا للآخر المختلف، حتى لو كان في تصريح فراس السواح حدٌّ من المبالغة والإساءة، طالما جاء في نطاق التعميم.
وليس هذا القول دفاعا عن السواح، فكاتبة هذه المقالة تخالفه في أن حجاب الرأس يعني بالمطلق حجاب العقل، فهناك عنصر أهم، هو حرية الإرادة والضمير التي تفتقدها شعوبنا العربية بغالبيتها الساحقة. وهذا لا يعني حجاب العقل، فالعبيد، عندما كانت العبودية، باعتبارها ظاهرة لا إنسانية، تشكل جزءًا مهمًا من النشاط البشري، لم يكن العبيد محجبي العقل، بل كانوا مسلوبي الإرادة. وقد أدركوا ذاتهم، وثاروا ضد أوضاعهم، ونالوا حرياتهم، وأبدعوا في كل مجالات النشاط البشري. أقول لو كان تصريح فراس السواح يحمل درجة من الإساءة بتعميمه، فهذا لا يعطي مبرّرًا للآخرين كي يتناولوه بشخصه، ويهتكوا كرامته ومكانته، وينسفوا تاريخه الإبداعي، وإنتاجه الثقافي والفكري الذي لا يمكن إنكاره. كان الأجدر والأكثر إخلاصًا للشعارات التي ينادون بها أن يصبّوا سجالاتهم في مكانها الصحيح. أن يمارسوا دورهم النقدي، ويجادلوا بالحجة والبرهان. هذا لم يحصل، للأسف، وللأسف أكثر أن الهوّة تتسع بيننا وبين إمكانية التأسيس لوعي مغاير، وعي نقدي بالدرجة الأولى، يضع شعوبنا على طريق النهضة الإنسانية الحقيقية، بعد التجارب المريرة والقاسية التي مرّت وتمر بها.