زيارة إلى الصندوق الأسود للدولة المصرية (3 من 3)
تعيد الباحثة التأكيد في دراستها على بديهة سياسية، وهي أن الجماعات السياسية التي تعبر عن نفسها في شكل أحزاب أو جماعات مصالح أو قوى ضغط أو حركات اجتماعية سياسية، هي القوى الفاعلة الأساسية في معظم النظم السياسية، والعلاقات السائدة بين هذه الجماعات، سواءاً كانت علاقات تنافس أو تعارض أو تكيف، هي التي يفترض أن تحكم العمل السياسي، ومن هنا يكمن جوهر أزمة السياسة في مصر، لان العمل السياسي في مصر بعد ثورة يوليو 1952 لم ينتظم حول العلاقات الرسمية السائدة بين الجماعات السياسية وأجهزة الدولة الرسمية، فالكيانات الرسمية للدولة لم توفر على الإطلاق واقعاً متاحاً للعمل السياسي، لأن شاغلي المناصب السياسية العليا في مصر منذ ما بعد يوليو 1952، لم يتولوا هذه المناصب بفضل نشاطهم السياسي، أو نتيجة ضغوط مارستها أية جماعة منظمة، فليس هناك حزب سياسي يساندهم أو ينتمون إليه ويعبرون عنه، كما أنه ليست هناك جماعات ضغط سياسية أو اقتصادية أو جماعات مصالح تدعمهم، فضلاً عن أنهم لا يمثلون أي جماعة من الناخبين تعبر عن مصالح وأهداف واضحة ومحددة، فهم يحصلون على مناصبهم بالتعيين المباشر من رئيس الدولة، ويتم اختيارهم غالباً من خلال شبكات غير رسمية تعبر عن نفسها إما في شكل "شِلَل" أو دفعات دراسية واحدة، أو علاقات منفعة متبادلة، أو محسوبية تنشأ في دوائر العمل.
تستشهد الباحثة على تلك الحقيقة المؤسفة بإجابة الدكتور يحيى الجمل الذي تولى وزارة الدولة لشئون مجلس الوزراء عام 1974، حين سألته عن السبب الذي اختير من أجله للعمل كوزير، معتبرة أن إجابته تلخص عملية تجنيد أفراد النخبة في مصر والوطن العربي، حيث قال لها الآتي: "كنت أعرف عبد العزيز حجازي رئيس مجلس الوزراء قبل دخولي الوزارة بفترة طويلة، فقد كنا نقوم بالتدريس في الجامعة نفسها، بل إن مكاتبنا الخاصة كانت في مبنى واحد، كذلك اشترك مكتبي القانوني ومكتبه المحاسبي في عدد من الأعمال معاً، أما بالنسبة للرئيس السادات فقد سمع عني من حجازي، كما أنني كنت مثل السادات أنتمي إلى المحافظة نفسها وهي المنوفية"، وهو ما ترى الباحثة أنه لا يقتصر على شخصيات بعينها، لأن العلاقات غير الرسمية تمثل الأساس التنظيمي للنظام السياسي في مصر، لأن الشبكات غير الرسمية لا تتأثر بالتنظيمات السياسية أو بدوائر الانتخابات أو بجماعات المصالح التي تمارس في الدول الغربية ضغوطاً على صانع القرار، ويتم تمثيل مصالحها من خلال شبكات المنافع المتبادلة غير الرسمية التي يتم عقدها مع التنظيمات الرسمية، وبالتالي فإن العلاقات التي تحكمها المصالح الشخصية لا مصالح الجماعات، والتي تسود بين الشلة أو الدفعة، تجعل من مصلحة الشلّة أو الدفعة انضمام المزيد من أفرادها إلى صفوف النخبة، ولذلك تبقى هذه الشلل والدفعات موجودة ضمن إطار النخبة السياسية المصرية، حتى لو تغيرت توجهات السياسات العامة، ولو كانت تعبر عن مصالح جماعات محددة لكانت قد تغيرت مع هذه التوجهات أو حتى قاومت حدوثها وهو ما لم يحدث أبداً.
تلاحظ الباحثة أن خطورة هذا التكوين "الشِلَلي" أو الرفاقي أو الدفعاتي يلعب دوراً ضاراً في مجمل الأداء السياسي، حيث تتكون "شِلَل" فرعية داخل النخبة السياسية، وهوما استنتجته من خلال المقابلات الشخصية التي أجرتها، ولمست فيها الانقسامات الحادة التي تسود بين الشخصيات السياسية البارزة، الذين كان لكل واحد منهم مجموعة من الوزراء "الأتباع" داخل الحكومة، وكيف أنهم للحفاظ على مناصبهم أقاموا أحياناً علاقات محسوبية مع رئيس الجمهورية لتقوية مراكزهم السياسية، وهو ما حدث مثلاً من خلال علاقات المصاهرة التي حدثت بين سيد مرعي وعثمان أحمد عثمان والرئيس السادات، كما حدث مثلاً حين اختلف عبد العزيز حجازي وممدوح سالم فلجأ ممدوح سالم للسادات ضد منافسه، كما ترصد كيف وصل الصراع في بعض الأحيان بين أفراد الشِلل الوزارية إلى تبادل السباب داخل مجلس الوزراء، مثل ما حدث بين وزير الدفاع ووزير الإسكان والتعمير حول مخصصات الأسمنت لوزارة كل منهما، بالإضافة إلى وقائع أخرى كانت الغلبة فيها للوزراء الأقرب من رئيس الجمهورية، يروي كل من سيد مرعي ومنصور حسن للباحثة أن النزاع حول تخصيص الموارد لهذه الوزارة أو تلك لم تكن تتم تسويته عن طريق القنوات الرسمية في السلطة التنفيذية أو التشريعية، بل كانت تتم تسويته بطريقة غير رسمية عن طريق تدخل الرئيس غالباً.
تلاحظ الباحثة من خلال الشهادات التي جمعتها أن النزاع والتنافس بين الوزراء لا يكون عادة مرتبطاً بمهامهم الوزارية أو بموارد وزاراتهم، بل يرجع أساساً إلى محاولات بعض الوزراء تجنيد أتباع لهم داخل السلطة التنفيذية أو التشريعية، لتعزيز شبكة قوتهم وسلطتهم، ويلفت نظرها أن مثل هذه النزاعات الداخلية كان لها حدود دائماً، حيث لم تتصاعد أبداً إلى الحد الذي يؤدي إلى خلق جناح سياسي، من الممكن افتراضاً أن ينفصل عن النخبة القائمة ويمثل تحدياً لها من الخارج، فقد كان منطق المصلحة الشخصية يحول دون تحقق هذا الاحتمال، أما النزاعات حول المسائل العامة فترى الباحثة أنها قد غابت تماماً عن دائرة النخبة المصرية. تلاحظ الباحثة أيضاً أنه عندما كان يتم إعفاء وزير من ذوي النفوذ الشخصي وتعيين آخر مكانه، لم يكن يعني هذا إبعاده بالكامل عن الدائرة النخبوية الأوسع، كما أنه لم يكن يستتبع بالضرورة إقصاء أتباعه من الوزراء من السلطة التنفيذية، حيث يسعى أتباع الوزير المستبعد غالباً إلى اتخاذ مواقف جديدة، حتى يضمنوا استمرارهم داخل النخبة السياسية، شرط أن تكون علاقتهم برئيس الجمهورية سليمة لم تمس.
الرئيس الملك
تصف الدكتورة مايسة الجمل الحياة السياسية بعد ثورة يوليو بأنها تبدأ وتنتهي عند رئيس الجمهورية، إذ سمحت القواعد غير المعلنة بوجود رئاسة شبه ملكية ذات طابع شخصي، حيث ظل الرئيس هو المصدر الوحيد لأية ابتكارات أساسية أيديولوجية أو سياسية، وظل لوحده قادراً على تحديد وتغيير قواعد اللعبة السياسية وشروط المشاركة السياسية. في عهد السادات مثلاً وباستثناء صهر الرئيس عثمان أحمد عثمان، لاحظت الباحثة أن جميع الذين شاركوا منذ البداية في الحكم وكانوا جزءاً من عملية صنع القرار، ومن الدائرة الضيقة المحيطة بالسادات، انتهى الأمر بإقالتهم واستبدالهم بآخرين، ولم يترتب على ذلك حدوث أي تغيير في التوجهات السياسية، وهو ما جعل العلاقة بين تغير أفراد النخبة وتغير السياسات مفقودة.
تضرب الباحثة مثالاً على سيطرة السادات الفردية على عملية صنع القرار، بإقالته لصديقه وصهره سيد مرعي الشخصية البارزة والمستمرة في نظام يوليو منذ عام 1952، وهي الإقالة التي تمت بسبب الخلاف حول كيفية التعامل مع المعارضة داخل البرلمان الذي كان يرأسه سيد مرعي، ولم تشفع لمرعي صداقته للسادات ولا مصاهرته له، ولا اتفاقه أيديولوجياً مع اتجاهات السادات، وهو ما يعبر عنه سيد مرعي في حديثه مع الباحثة قائلاً: "لقد كنت قريباً جداً من السادات وكنت معجباً بنفاذ بصيرته، كما كنت أحترم توجهاته، ولكن كانت لي بعض التحفظات، والحقيقة أن السادات عندما أعفاني في نهاية الأمر من منصبي كرئيس لمجلس الشعب، كان ذلك لأن وجهتي نظرنا لم تتطابقا بشكل كامل بشأن بعض القضايا"، وعندما سألته الباحثة عن دوره في عملية صنع السياسات أجابها بوضوح: "لم يكن لي ولأي فرد آخر دور بالمعنى الذي تقصدينه، فالسادات لم يكن ليفضي لأي شخص بما يجول في خاطره قبل أن يتخذ قراراته الهامة، لقد كان السادات يسألنا عن رأينا في بعض القضايا ويستمع لمناقشاتنا، ولكن لم نكن نعرف على الإطلاق في أي شيء يفكر، أو ما يمكن أن يتخذه من قرارات طبقاً للدستور، مع أن رئيس مجلس الشعب هو الرجل الثاني بعد رئيس الجمهورية".
تضرب الدكتورة مايسة الجمل أمثلة أخرى للسيطرة الملكية للرئيس في مصر، باستغناء السادات في مراحل مختلفة عن كل من الفريق محمد أحمد صادق ومحمد حسنين هيكل واسماعيل فهمي ومحمد إبراهيم كامل وممدوح سالم بل وحتى المشير محمد عبد الغني الجمسي الذي قال السادات في عام 1974 إنه سيحتفظ به في منصبه مدى الحياة، وتقول الباحثة إن إعفاء جميع هؤلاء من مناصبهم لم يكن نتيجة خلاف جذري مع السادات بشأن توجهاته الأساسية، وإنما كان يتم إقصاء الواحد منهم تلو الآخر، إما بسبب امتناعهم عن المصادقة العمياء على بعض خطوات السادات التكتيكية في إطار جهوده الرامية إلى طمأنة الغرب، أو لأنهم برزوا في دائرة الضوء السياسية وبشكل كادوا يبدون فيه شركاء فيما يحققه السادات من انتصارات. وفي المقابل فإنه لم يوجد أحد من دوائر النخبة، كان له من النفوذ والتأثير، ما يجعله غير قابل للاستغناء عنه من جانب السادات، رغم أن بعضهم كانت له "شِلَل" لم تتطور لتكون أجنحة، كما أن السادات وفقاً لمقابلات الباحثة مع المحيطين به، كان يدرك التداعيات المحتملة لعلاقات هذه الشِلَل، ولذلك فقد أخذ حذره من تأثيرها، فعمل على ارتباط شبكة مصالح الشِلَل به في نهاية الأمر، ليكون ولاء عضو الشِلّة له أولاً ثم للشِلّة، كما أنه من ناحية أخرى حرص على زرع بذور الشقاق بين الوزراء ذوي النفوذ الشِلَلي تحسباً لتجمعهم في نخبة مضادة.
النموذجان مرعي وعثمان
في دراستها التي تحولت إلى كتاب صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 1998، قررت الباحثة عند استعراضها لنماذج من أشهر رموز النخبة السياسية في مصر، أن تركز على شخصين مهمين هما سيد مرعي وعثمان أحمد عثمان، لأنهما كانا في رأيها أكثر شخصيتين تأثيراً في سياسات السادات، وإن كان تأثير عثمان حسب رأي محمد حسنين هيكل وحسب تأكيد سيد مرعي نفسه، يفوق كثيراً تأثير سيد مرعي، ولو أن السادات وزوجته جيهان كانا يكنان احتراماً أكبر لسيد مرعي، حسبما قال وزير مقرب منه للباحثة. كان السادات يعرف أن مساندة سيد مرعي كانت مشروطة، لكنه كان يعول على انسحاب سيد مرعي من المشهد بهدوء، أما عثمان أحمد عثمان فقد كان على استعداد دائماً للتكيف مع رغبات السادات، وهي صفة مكّنته من البقاء في الدائرة المحيطة بالرئيس، ليصبح الأكثر نفوذاً داخلها مع الوقت.
تستعرض الدكتورة مايسة الجمل تاريخ عثمان مع الدائرة النخبوية في مصر، والذي بدأ بإنشائه لشركة (المقاولون العرب) أواخر الأربعينات، واستفادته بعد ثورة يوليو من إجراءات التمصير، بالإضافة إلى سيطرته على السوق المصرية بعد أن نقل منافسوه حسن علام وشركة أبو الفتوح الجزء الأكبر من أعمالهم إلى الخليج العربي، وفي عام 1958 حصل على عقد بناء السد العالي، ثم قام بمد نشاطه إلى الخليج، وفي عام 1961 وبعد إجراءات التأميم ترأس عثمان مجلس إدارة شركته التي أصبحت شركة قطاع عام، لكنه برغم ذلك استطاع أن يضمن صفقات خاصة في الخليج، كما أنه من خلال علاقاته بوزير الإسكان آنذاك محمد أبو النصر، والذي كانت شركته الاستشارية الخاصة قبل الوزارة تعتمد على شركة (المقاولون العرب) في جزء من نشاطاته، نجح في استصدار قانون وضع لصالح شركته خصيصاً، تمكن بفضله من تحويل أرباح الدولة من شركة (المقاولون العرب) إلى شركاته الخاصة التي تعمل في الخارج، وذلك عن طريق نقل بعض نفقاتها، مثل تحميل شركاته العامة في مصر أعباء الآلات المستهلكة في المشروعات الخارجية، وبهذا يكون قد "خصّص" أرباحه و"عمّم" ديونه.
تعتمد الباحثة في هذه المعلومات على شخص بارز في نخبة عبد الناصر اختار عدم ذكر اسمه، وروى للباحثة أن أعمال عثمان أحمد عثمان في دول الخليج، أدت إلى توثيق صلاته بعمليات أجهزة سيادية رفيعة، كانت قد أقامت عدداً من شركات الإنشاء والشحن كواجهة لعملياتها، وبدأت هذه العلاقات كما يقول هيكل عن طريق صلاح نصر رئيس المخابرات العامة وقتها، في الوقت نفسه الذي قام عثمان بتوثيق علاقته برموز الإخوان المسلمين الهاربين إلى الخارج، ليستخدم هذه العلاقات فيما بعد لخدمة السادات، لكن قبل أن يحدث ذلك كان صلاح نصر قد أسهم في توثيق علاقة عثمان أحمد عثمان بالنخبة السياسية، حين قام بتقديمه إلى المشير عبد الحكيم عامر، ومن خلال عامر التقى عثمان بأنور السادات، وتوطدت علاقات عثمان بالمشير عامر إلى درجة أنه كان من القلائل الذين حضروا الزواج السري للمشير بالممثلة برلنتي عبد الحميد، وطبقاً للمصدر الذي لم تذكر الباحثة اسمه، فإن علاقة عثمان أحمد عثمان بأنور السادات بدأت من خلال الحفلات الخاصة التي كان يقيمها عبد الحكيم عامر، ثم توطدت العلاقة بعد مجيئ السادات للحكم، ووساطة عثمان له مع قيادات الإخوان لمساعدته في ضرب اليساريين والناصريين الذين أزعجوا السادات بقوة، وهو ما أدى إلى منح عثمان أول منصب وزاري له في عام 1973، وبعد تركه الوزارة في عام 1976 تولى رئاسة المجموعة البرلمانية لمحافظة الإسماعيلية داخل مجلس الشعب، وهو موقع كان تأثيره السياسي أقوى بكثير من حجم تلك المجموعة وتأثير الإسماعيلية نفسها، ثم تولى عثمان أحمد عثمان رئاسة نقابة المهندسين في عام 1978، وبرغم تركه للوزارة فقد استطاع تعيين بعض أتباعه المقربين مثل بهجت حسنين وطه زكي في مواقع وزارية.
أما المهندس سيد مرعي الذي بدأت علاقاته برجال ثورة يوليو عن طريق صديقه زكريا محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة، فقد قام برد الجميل بعد ذلك لزكريا عند ترقيته لشقيق زكريا الأكبر عبد العزيز، الذي كان يعمل في وزارة الزراعة التي تولاها سيد مرعي، وفي مقابل مساعدة علي صبري له في تولي رئاسة اللجنة العليا للإصلاح الزراعي، قام سيد مرعي بتعيين عمر صبري شقيق علي سكرتيراً له في اللجنة، كما قام سيد مرعي بتعيين زملاء دفعته في الجامعة في مناصب هامة في وزارة الزراعة، ومن بين هؤلاء عزيز قدري وحسن مراد وحافظ عوض وأمين زاهر ومصطفى الفار، وبعد أن أقصى سيد مرعي من الوزارة، انتقل بعض هؤلاء مثل حافظ عوض وأمين زاهر إلى وزارة التموين التي كان يرأسها حينئذ كمال رمزي استينو، الذي تخرج في كلية الزراعة أيضاً، وكان صديقاً لسيد مرعي.
البيروقراطي والتكنوقراطي
تقرر الدكتورة مايسة الجمل أن النخبة السياسية المصرية في فترة ما بعد يوليو 1952 تميزت بأن أغلبية أعضائها كانوا ينتمون إلى جهاز الدولة البيروقراطي بسبب قدراتهم الإدارية، وليس لخبراتهم السياسية، وتعتبر الدكتور أسامة الباز مثلاً واضحاً على دور البيروقراطية في الحياة السياسية المصرية، فبرغم أنه لم يتول قط منصباً وزارياً، إلا أن مركزه في ديوان رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية وضعاه في حلبة السلطة السياسية، وظل ينظر إليه عادة باعتباره شريكاً ذا تأثير في عملية وضع السياسة في عهدي السادات ومبارك، منذ أن قام بدور في مفاوضات كامب ديفيد، ليتمكن ذلك الرجل المتمرس في الأداء البيروقراطي من فهم الخاصية البارزة التي يعتمد عليها بقاؤه واستمراره في منصبه.
تستعرض الباحثة تاريخ أسامة الباز الوظيفي منذ تخرجه في كلية الحقوق بجامعة القاهرة ليعمل في النيابة العامة فترة قصيرة، ثم ينتقل إلى وزارة الخارجية كسكرتير ثالث في عام 1956، ثم يحصل على منحة من الدولة للدراسة في جامعة هارفارد لنيل درجة الدكتوراة، لكنه عاد إلى مصر في أواخر الستينات قبل إكمال دراسته، وبرغم كونه موظفاً في وزارة الخارجية، إلا أنه كان يمتلك علاقات وثيقة بمكتب سامي شرف سكرتير رئيس الجمهورية، وبمحمد حسنين هيكل الذي كان وزيراً للإعلام، وبالدكتور أحمد كمال أبو المجد وقت أن كان وزيراً للشباب، وفي عام 1973 يقوم وزير الخارجية إسماعيل فهمي باختيار أسامة الباز للعمل في مكتبه، ثم يتم تعيينه في عام 1975 سكرتيراً للشئون الخارجية في مكتب نائب رئيس الجمهورية أنذاك حسني مبارك، لتبدأ علاقته الطويلة به التي استمرت عدة عقود. ترى الباحثة أن ما مكّن الباز من البقاء في خضم الحلبة السياسية، هو امتلاكه لتلك الشبكة الواسعة من الاتصالات بالشخصيات السياسية الهامة وتكيفه المستمر مع الأهداف الساسية القائمة، وطبقاً لرأي البعض فإن سبب حفاظه على وظيفته، هو أنه لم يتقلد قط أي منصب وزاري، وهو ما لم يرغب فيه على الإطلاق، ليظل داخل الإطار المستقل الذي تتميز به الوظائف غير البارزة.
تختار الباحثة كلاً من الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق والدكتور مصطفى خليل رئيس الوزراء الأسبق، كمثالين للتدليل على حديثها عن صعود الكوادر التكنوقراطية المستمر داخل النخبة السياسية برغم اختلاف التوجهات السياسية الرئاسية، فرفعت المحجوب الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة كان عضواً ناشطاً في الاتحاد الاشتراكي خلال عهد عبد الناصر، واشتهر بإيمانه بالاشتراكية والقومية العربية وتنظيره لهما، وفي عهد السادات انضم إلى الحزب الوطني الحاكم، وتحولت آراؤه تحولاً حاداً ليتبنى مناهج الإنفتاح ويدافع عن السلام مع إسرائيل، ويؤتي هذا التحول ثماره في أواسط الثمانينات، حين يتولى أسمى منصب سياسي بعد رئيس الجمهورية، هو رئيس البرلمان، وليقوم المحجوب بإنشاء شبكة خاصة به داخل النخبة السياسية، كان على رأسها الدكتور عاطف صدقي الذي تولى منصب رئيس الوزراء بناءاً على تزكية المحجوب، مع العلم أن عاطف صدقي ورفعت المحجوب وعائشة راتب كانوا شركاء لفترة طويلة في مكتب خاص للاستشارات القانونية، طبقاً لما تقوله الباحثة.
أما الدكتور مصطفى خليل الذي تقلد عدداً من المناصب السياسية في عهدي عبد الناصر والسادات، فقد نجح في تغيير ميوله السياسية بما يتلاءم مع التغييرات المتتالية في توجهات رئيس الجمهورية، ولذلك احتفظ بمركز مرموق داخل الدائرة النخبوية الأوسع منذ عام 1954، من خلال نجاحه في إخفاء معتقداته السياسية، وبرغم أن الدور الذي قام به منذ منتصف السبعينات كان أكثر اتفاقاً مع ميوله السياسية، فإن ذلك لا يعني أنه كان سيرفض لو تم استدعاؤه لأداء مهمة تختلف مع توجهاته الشخصية. وهو ما يمكن أن يلقي عليه الضوء بشكل أكبر الحوار المطول الذي أجريته معه عن تجربته السياسية في عهود عبد الناصر والسادات ومبارك، والذي سبق أن نشرته على هذه المدونة الشهر الماضي.
سيتضاعف حزنك وأساك من هذه التفاصيل التي تسردها رسالة الدكتوراة، حين تدرك كيف ظلت هذه التفاصيل دون أدنى تغيير بعد أن نشرتها في كتاب منذ أكثر من عشرين عاماً، فلا زالت معايير اختيار الوزراء التي رصدتها الباحثة في عهدي عبد الناصر والسادات متطابقة مع معايير اختيارهم حتى الآن، ولا زال إدخال أي عناصر جديدة في النخبة السياسية الوزارية معتمداً على العلاقات الشخصية التي لا تخلو من المصالح والتحيزات الضيقة، وهو ما أدى إلى كوارث محققة لا أظنك بحاجة إلى التذكير بها إذا كنت تعرف واقع مصر وتعاني من مشاكله الكارثية.
وبرغم أن تاريخ الوزارات المصرية في العقود الماضية لم يخل من أسماء محدودة يتذكرها الناس بالخير، إلا أن وجود تلك الأسماء لم ينعكس على الأداء السياسي في مصر أو على حياة المواطنين بشكل عام، لأن استمرار رئيس الجمهورية في مصر كملك مطلق الصلاحيات دون أي رقابة شعبية أو محاسبة سياسية، ظل كفيلاً بتغليف الحياة السياسية في مصر بمناخ من الفساد وانعدام الكفاءة الذي يتجاوز السير الذاتية للأشخاص والنوايا الحسنة لهم، وللأسف لا زال الكثيرون يعتقدون أن التخلص من ذلك المناخ القاتل، سيكون بالإطاحة بشخص رئيس أو رئيس وزراء أو وزير واستبداله بشخص أفضل من وجهة نظرهم، مع أن جوهر المشكلة يكمن في تأميم الحياة السياسية في مصر، وعدم اعتمادها على حركات وتيارات سياسية متنافسة، يؤدي صراعها وتدافعها وائتلافها واختلافها إلى إفراز كفاءات سياسية صالحة للتعامل مع بلد ذي مشكلات معقدة كمصر، وهو ما لن يبدأ في التحقق، إلا إذا تضاعف الوعي الجمعي الشعبي بفشل نموذج القائد المخلص الذي لا ينقصه إلا معاونون أكفّاء نظيفو اليد، وتم إعادة الاعتبار للعمل السياسي الذي دأب الملايين من أبناء بلادنا على احتقاره واستهجانه، وللديمقراطية التي لن يبدأ خلاصنا إلا بها، شريطة أن ندرك أنها ليست صندوق الانتخابات وحده، وأنها ضمان لكي لا تستبد الأقلية بالأغلبية وتحرمها من حقوقها، وفي نفس الوقت لكي لا تفتك الأغلبية بالأقليات وتستبد بهم، وحتى يحدث ذلك كله، ستظل هذه الدراسة العلمية ومثيلاتها من الدراسات المشرحة لخوائنا السياسي، صالحة فقط للاستحضار والاستشهاد الموجبَين للتحسر والأسى، لا التبصر والتغيير.