ذات مَساء رطيبٍ، زُرتُه في شقَّته الجميلة في الكويت. كانت هذه الشقة بسيطة في أثاثها ومساحتها. تضفي عليها لوحات ناجي العَلي إصرارًا. تجاورُ هاتيكَ المعلقات تُحَفٌ تنحدرُ خطوطها ونقوشها من بلغاريا، ورسوم دافئة حارقة وأسئلة تسهرُ في كل شبرٍ من القاعة.
وكان هو بكامل اعتداده، يَلفّه حزنٌ ساخرٌ، ومَرارة الكِبار تَعلو محياهُ المُضلِّل. ثاقبُ النظر، يرنو إلى ما وراء التلال وهضبات الزياتين المُخْضَرَّة، يَستذكر نسائمَ صباح ما، بَعيدٍ في "أمِّ الزينات" بفلسطين، يتيه معها في ذكريات العصور الأولى وهمس البدايات الرائحة.
كانت نيّتي أن أقضي معه نصفَ ساعة للحديث عن أيامنا الراهنة، ولكنَّ الجلسة استمرَّت أربعَ ساعات، غُصنا خلالها في تيارات الفِكَر، وفيضٍ من الأعلام والحوادث والعِبَر؛ ساعاتٌ أربعٌ طَوت القرن العشرين بخيباته وآلامه، بقساوة تغريباته ومرارة الهزائم، مع شعاع أمل يضيءُ هنا وهناك.
مُضيفي هو محمد الأسعد، شاعرٌ وباحث، صاحب قلمٍ وفَضلٍ. ابتدأ الحديثَ عن مشهد طفولته ذات يومٍ غائمٍ من سنة 1948 حين هُجِّرَ من فلسطين إلى البَصرة، وتلقته سلطات البلد آنذاكَ كما لو كانَ متّهماً فوُضع مع أسرته في دورٍ من الخَشب، ضيقةٍ باردَةٍ، وكان ذلك أول القيود التي منها تَحرَّرَ بالقراءة والاطلاع ولا سيما بعدما تمكّن مِن لغة شكسبير ولاقحَ بها تكوينه المتين واطلاعه الواسع على لغة الضاد وصرامة الفلسفة والتاريخ.
ثمَّ أخذنا في أطراف الأحاديث بيننا، فخاض في متاهات السياسة العربية وقادتها، وغالباً ما كانَ يُكنِّي عنهم بـ"البطيخ"، في نبرة ساخرة متعالية، إذ يَرى ساسة العصر صبياناً، لا حنكةَ لهم ولا ثقافة، يَرتجلون قراراتهم، ولا يرجعون في ذلك إلى مُسكةٍ من علم أو مَرجعٍ متين أصيل.
وبعدها آنَ أوان الأدب، فاستعادَ أسماء كبار الكتّاب عندنا ومع كل اسمٍ يورِد قصةً أو نادرة، وقد تُظهر بعضها ضعف ما خِلتُهم أنا من كبار الأدباء عندنا، فَيَنزَع عنهم هالة السحر، حتى أدهشني بذكر تفاهاتٍ صدرت عن فلانٍ، الكاتب الكبير، ولا ضيرَ عليه في ذلك إذا سبقه الجاحظ في فَضح كبار عصره الذي اعتذر من العيب على الأدباء "ولو أن أكون عياباً ثم للعلماء خاصة لصوّرت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة " (البيان والتبيين). ومن تلك القصص أنَّ مشتغلاً بالفلسفة في عصرنا أهدى له زميلُه المغربي كتاباً، عصارةَ ذهنه، فأهدى "الفيلسوف" هدية زميله للأستاذ محمد الأسعد... حتى لا يثقلَ عليه الوزن في الطائرة.
وبعدها حادثني عن الاستشراق والحفريات وكانت الأرض محور كل سَردياته. نعم، أسَرَني بعلاقته القوية بالمكان المُغتَصَب، والأرض المَوجوعة، وعشرات الدور التي زارها وما تَمَلَّكها، أُخرِج في المرة الأولى من قرية أمِّ الزينات بفلسطين المحتلة، وأُخرج ثانيةً من الكويت بعيدَ الغَزو، ولم يَقترف إثماً لا في الأولى ولا في الثانية، إلا أنَّه عربي من فلسطين. وبعدهما أخرج من مكتبه بعد بلوغه السنَّ القانوني في الكتابة الصحافيَّة. وأعجبْ من صدفة أضفت على اللقاء طابعاً سوريالياً، إذ تَصادف مع حضور سمير، شابٍ أردني، وسيم لسنٍ، جاء يسلّمُ له جواز السفر بعد أن أتمَّ له إجراءات "الإقامة".
شاهدت الحداثَةَ في محاورته مع ابنته الأستاذة، وتكلّمَا عن حول مفهوم اللغة الأم، فَلَمست لطافةً منطقٍ وعذوبة مَزحٍ، وكذا كان نبيلاً مع زوجته، وإن انصرفت لحظاتٍ إلى إحضار أكلة فَلسطينيّة، تنبعث روائحها الزكية من بهو البيت.
وأتمَّ محادثته عن كُتّاب القرن العشرين الذي صادقهم أو عاداهم، عاشرهم أو قاطعهم، فلم أقدر على تصنيفه.. إذ أدهشني بتنوّع إنتاجه الفكري ونَفاذ أسلوبه: مَدارات كثيرة متوقّعة تزورها لغته وتصوّرها، اقترنت تصاويره بمهارة في السرد تعكس قلق الكائن وألم الترحال والانتفاء من المكان الذي كان بالزياتين عامراً، آلمتني نظراته وكلماتها العارية من البلاغة المهترئة...
وشَدَّتني في آخر جلستنا إشاراتٌ عن تَراسل النصوص الكونيَّة مع النصِّ القرآني وقد رأى في قَصَصِه تقاطعات مع سردياتٍ قَديمة، يخشى من البحث في تحوّلاتها وطرائق انتقالها عبر الحضارات، بحثٍ قد يؤدي به إلى نتائج تَصدم مضيفيه، فَتَتسبّب له في تغريبة أخرى.
في ساعاتٍ، طاف بي الأستاذُ من قرى فلسطين، إلى باحات البصرة، فبغدادَ ومدرسة التجارة فيها، فالكويت، ومنه إلى قبرصَ وبلغاريا والعودة بعدها إلى شقته ومَكتبته: يُتَرجِم ويكتبُ، ويخلو إلى ألف صديقٍ له من الورق...
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس