وتماهت الخرطوم، ورغم احتفاظها بسفير لها لدى دمشق طوال سنوات الحرب، تماماً مع المواقف السعودية والإماراتية في كثير من القضايا الإقليمية؛ وشارك جيشها منذ العام 2015 في تحالف ما يسمى بـ"استعادة الشرعية" في اليمن، وانضمت كذلك لحلف دول تقوده السعودية لمكافحة الإرهاب، وصعد الرئيس البشير في فترة من الفترات لهجته تجاه الأسد، وتنبأ له في أحد حواراته الصحافية بأنه سيُقتل في يوم من الأيام.
وفي موقف آخر قد يبدو متناقضاً، ظلت الخرطوم ترفض التدخل الدولي في الشأن السوري، وتحث أطراف الأزمة على الجلوس على مائدة الحوار والوصول إلى توافق وطني، وفوق هذا استضاف آلاف اللاجئين السوريين، وعاملهم معاملة المواطنين السودانيين.
ومع ذلك، لا يزال الغموض يخيم على دوافع زيارة البشير لسورية، في حين لم يعط الجانب السوداني حتى اللحظة تفسيرات واضحة لدوافع الزيارة.
وحتى حينما دعا القصر الجمهوري الإعلاميين للحضور لمطار الخرطوم وتغطية عودة البشير من سورية، جاء إليهم وزير الدولة بوزارة الخارجية، أسامة فيصل، الذي رافق البشير في الزيارة، مكتفياً بأقصر تصريح صحافي في تاريخ التصريحات الصحافية، حيث لم تتعد مدته الدقيقة الواحدة، كرر فيه حرفياً ما جاء في الخبر الذي بثته وكالة أنباء النظام السوري (سانا) ، حيث ذكر أن زيارة البشير لسورية كانت مهمة، وأكد فيها الرئيسان البشير وبشارالأسد أن الظروف والأزمات التي تمر بها كثير من الدول العربية تستوجب إيجاد مقاربات جديدة للعمل العربي تقوم على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. بينما نقلت وكالة أنباء النظام السوري عن الرئيس البشير قوله إن سورية هي "دولة مواجهة، وإضعافها هو إضعاف للقضايا العربية، وما حدث فيها خلال السنوات الماضية لا يمكن فصله عن هذا الواقع، وهي بالرغم من الحرب بقيت متمسكة بثوابت الأمة العربية"، معربا عن أمله بأن تستعيد سورية "عافيتها ودورها في المنطقة في أسرع وقت ممكن، وأن يتمكن شعبها من تقرير مستقبل بلده بنفسه بعيدا عن أي تدخلات خارجية"، وأكد وقوف بلاده "إلى جانب سورية وأمنها، وأنها على استعداد لتقديم ما يمكنها لدعم وحدة أراضي سورية".
السؤال الأهم الذي يطرح في الخرطوم عن هدف الزيارة هو: "هل تمت بتنسيق مع أية جهة إقليمية أو دولية"؟
من الواضح تماماً أن الحكومة السودانية لا تريد على الأقل الآن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، لكن مقربين منها لا يستبعدون تماماً وجود طرف ثالث يقف وراء الزيارة، سواء كان طرفاً إقليمياً أو دولياً.
أول الأطراف التي يشار إليها بالدفع وراء زيارة البشير إلى سورية هو روسيا، والدليل الأبرز على ذلك هو الطائرة التي وفرتها للبشير ليستغلها في الرحلة من الخرطوم إلى دمشق، وتكتمها على الزيارة إلى نهايتها، وإعلانها بواسطة النظام السوري عبر الوكالة الرسمية.
يشير المقربون إلى التنسيق الروسي السوداني، في القضايا الإقليمية منذ زيارتين للبشير لموسكو خلال الفترة الأخيرة، كما يستشهدون لذلك التنسيق بتوسط الخرطوم بين أطراف النزاع في جمهورية أفريقيا الوسطى بدعم روسي، وهو أمر مضت فيه الخرطوم خطوات بعيدة، ولم يوقفها إلا تحفظات فرنسا التي تمتلك نفوذا في البلد الأفريقي.
في المقابل، لا يستبعد آخرون فرضية التنسيق السوداني السعودي، ويتوقعون أن يكون الرئيس البشير حمل رسالة سعودية لبشار الأسد تقترح تجاوز الماضي وفتح صفحة جديدة تنهى الأزمة في سورية واليمن، بمعادلات وصفقات تدخل فيها إيران، الحليف الرئيس للنظام السوري.
وفي هذا السياق، ربما كان لوصول وفد من وزارة الدفاع السعودية يقوده رئيس هيئة أركان الجيش السعودي للخرطوم، اليوم الإثنين، أيضا ارتباط بما حدث في دمشق أمس الأحد.
يقول رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة النيلين فتح الرحمن أحمد، إن الضغوط التي تواجهها الرياض من قبل الولايات المتحدة والغرب، سيما بعد قرار مجلس الشيوخ الأميركي بإدانتها فيما يتعلق بمقتل الصحافي جمال خاشقجي، يدفعها لاتخاذ مواقف جديدة ترتب بها نفسها للمرحلة المقبلة، التي قد لا تجد فيها حليفها التاريخي الولايات المتحدة.
وأشار أحمد إلى أن قيام السودان بدور يقرب فيه المسافة بين دمشق والرياض ربما يقبض ثمنه من خلال دعم مالي، هو في حاجة ملحة له في ظل التدهور الاقتصادي الذي تشهده البلاد.
من جهته، قال الصحافي والمحلل السياسي الطاهر ساتي، لـ"العربي الجديد"، إن الزيارة تمت بترتيب سوداني روسي، وبدعم وجهات أخرى، مشيراً إلى أن العلاقات السودانية السورية "استمرت رغم مقاطعة كثير من الدول العربية للنظام السوري"، وأن الجانبين ظلا يتبادلان الزيارات طوال الفترة الماضية.
وأضاف ساتي أن "السودان لا يضع في علاقاته الخارجية اعتباراً للمحاور الموجودة في المنطقة، ولا يعمل بمبدأ ضد أو مع، بل يمضي حسب مصالحة ومبادئه، فعلاقات السودان مع السعودية ومصر لم تؤثر على علاقته مع تركيا وقطر، وعلى ذلك قس".
وحول ما إذا كانت زيارة البشير رداً على زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لعدد من الدول العربية، والتي استثنى فيها السودان، قال ساتي إن الخرطوم لم تتبرم من ذلك الموقف رغم أن التحركات السعودية شملت منطقة القرن الأفريقي التي يمتلك السودان نفوذا فيها، فـ"من حق الرياض أن تتحرك وفق مصالحها، وكذلك من حق السودان التحرك وفق مصالحه واستقلالية قراره"، حسب قوله.