28 ديسمبر 2021
سحر السلطة ولمعانها المخادع
في بلادٍ غير بلادنا، تقوم مهمة السلطة على قواعد وظيفية يؤدّيها موظفو "دولةٍ" لا يقدّمون مصالح السلطة على حساب مصالح الدولة، ما دامت السلطة مؤقتة، لا تؤبد مهامها بشكل شمولي، على عكس الحال في بلادنا، حيث السلطة مهمّة أبدية أو شبه أبدية، وظيفتها أو وظائفها تتخطى الزمن، وتقهره لمصلحة نزوع سلطوي يتغول في التعبير عن مصالحه الخاصة والشخصية، فلا يؤدّي موظفوها وظائفهم إلا في ما يفيد علاقاتهم الزبائنية وعلاقات المصالح والقرابات والنفوذ، ولصالح استمرارية السلطة سيدة علاقات الهيمنة.
السلطة في بلادنا متلوّنة، تتماهى مع المستحيل؛ على حساب كل الإمكانات والوقائع والقدرات والمعقولية، الأمر الذي يؤسّس لسطوةٍ ذئبية، فيها من الفُحش والتوحش السلوكي والمسلكي السلطوي ما لا يقيم أي وزنٍ لأي قيمةٍ أخلاقيةٍ أو وطنية؛ ولا حتى منطقية أو إنسانية، وهذا هو جوهر السلوك الاستبدادي، الخارج على كل قيم الإنسانية المتحضرّة، خصوصاً في مجتمعاتٍ واضحةٍ لا تتلون السلطة فيها مثل حرباوات الغابات، ولا تتجاوز حدود المنطق، والمنظور الإنساني الناظم لحركة المجتمعات، وتقسيم العمل الانضباطي والعدل الإنساني الموزّع بعدالة وبرضىً خالص عند الأفراد، كما عند الجماعات والمجتمعات الإنسانية بعامة.
لم تتشكّل السلطة في بلادنا إلا بصورة قهرية وإكراهية، حين يستبد "القوي" بمصائر الضعفاء، ويخدعهم بوعوده الكاذبة، ولا يقدّم لهم سوى الفتات، ومنهم مَن يُحرَم إياه حتى، إذا لم يُذعن
وينحنِ، ويقدّم فروض الولاء والطاعة، لمن لا ينبغي له أن يُطاع وفق أي قانونٍ أو شرع أو شريعة. وللأسف، إن ما يحكم قوانين السلطة في بلادنا شريعة غابٍ أصّلتها مسلكيات التوحش القائمة حتى أيامنا بصور مختلفة، تعطّلت معها السياسة وقيمها ومبادئها، وكامل القيم المجتمعية، واستبعدت كل القوى الحية، واستعيض عنها بطواقم سلطة دولةٍ عميقة، لا همّ لها سوى تشكيل غلافٍ واقٍ ينافح عن السلطة وأهلها ومجتمعها البعيد عن مجتمع الناس العاديين، وهم يتقلبون على جمر الظلم والغبن والاستغلال الطبقي والإنساني.
بين حينٍ وآخر، وعند منعطفاتٍ معينة، تبالغ السلطة بأفراحها الفاجرة التي تجدّد لها إكسير حياتها، واستمرارها سيدة علاقات الهيمنة وتوزيع أدوار الزعران والأتباع والأزلام وسحّيجة المناسبات، وليس أفضل من مواسم الانتخابات للقيام بهذه المهمة المحدّدة سلفاً، حتى ولو أدّى الأمر إلى تهديد السلم الأهلي، وهزّ الاستقرار ونصب المتاريس بين المتصارعين على سلطةٍ، أريد اختراعها لمصلحة من يُراد لهم الاستمرار في خدمة أهل سلطةٍ أعلى داخلية، ممسوكة بقوة الاستتباع لمصلحة أهل سلطات عليا خارجية.
كل هذا في غياب الدولة كمؤسسة نزيهة محايدة، خسرت من هيبتها ومن أدوارها الكثير، بل انتزعت منها انتزاعاً من سلطة أمر واقع، كرّست وتكرّس نفسها بديلاً للدولة وللدستور وللمؤسسات، حتى القضاء في هذه الحالة دخل شريكاً مضارباً كي يغطي ارتكابات مراكز القوى، ويمهّد لأقويائهم الماليين والسياسيين، بمعونة بعض الأمنيين والعسكريين دروب الهيمنة السلطوية، والاستفراد بها وتوزيع مغانمها على الأتباع وشركاء الفساد والنهب والإفساد وخبراء الرشى والارتشاء. وفي الأخير، يحاولون إقناعنا بأن ما تحكمنا هي الدولة، بينما الأخيرة مجنيٌّ عليها، كانت قد فقدت كل ما له علاقة بكينونتها وطبيعتها على أيدي سرّاق الدولة والمال العام الذين كانوا، بالتدريج، قد سطوا على المال العام، وكوّنوا مع ثرواتهم الحرام سلطتهم المحرّمة، ومعها أورثوا أنفسهم وأسرهم وعائلاتهم؛ ليس السلطة وآليات اشتغالها فحسب، بل والثروة وعلاقات الهيمنة سواء بسواء.
لا تخادع الدولة شعبها، السلطة هي التي فعلت وتفعل، أهل السلطة هم الأكثر مخادعةً للناس من أجل مصالح لهم أضحت وتضحي وكأنها الحق الذي لا يُعلى عليه، فيما مصالح العموم تتعرّض يومياً للمخادعات المتواصلة والخيانات المرتكبة بغير وجه حق، وهي مخادعات سلطةٍ لا مخادعات دولة، ففي حين ينتمي فيه الدستور ومحدّدات الحقوق والواجبات إلى فضاء الدولة، تنحرف السلطة بآليات ومعايير سطوتها السلطوية إلى سلب حقوقٍ كثيرة، وإضفاء واجباتٍ عديدة على مواطني الدولة.
تؤكد أنظمة سياسية عديدة قائمة في بلادنا، كونها مجرّد سلطةٍ أبعدت ذاتها عن فضاءات الدولة، وكوّنت مصالحها الخاصة والزبائنية، بعيداً عن قوانين الدولة الحديثة ومعاييرها، حتى بدت وتبدو آليات تلك القوانين والمعايير غير مؤهلةٍ مطلقاً لإنتاج دولة عصرية، بقدر ما أنتجت تجارب
معظم الأنظمة السياسية العربية وأشباهها ومثيلاتها على الأقل في أفريقيا أنظمة بوليسية قمعية بشكل فاجر، وأنظمة تتغطّى بآليات ديمقراطية زائفة، لكنها لا تقلّ فجوراً عن التي تمارس سياسات اقتصادية واجتماعية معادية للطبقات الشعبية، كالنظام اللبناني الوارث آليات سلطة تحاصص طائفية ومذهبية منذ الاستعمار الفرنسي، وحتى ما بعد "الاستقلال"، ومنها انبثاق آليات توريث أسرية وعائلية، تتبنّى أساليب وطرائق وسياسات بارعة في النهب وسرقة المال العام وخداع الناس، حتى فاضت أوجاعهم ومعاناتهم جرّاء السياسات المعادية للشعب، والمضادّة للدولة كمؤسسة ومنطوقها ودورها في خدمة مواطني الدولة، فكان لا بد مما لا بد منه؛ فما جرى ويجري في بيروت ولبنان كله مؤشرٌ على فوضى السلطة وبؤسها ومخادعاتها تجاه نفسها، وتجاه الخارج قبل الداخل، الذي اكتوى ويكتوي بنيران نظام سياسيٍّ لم يعد قادراً على إنجاح خططه ومخططاته للاستمرار بمخادعة شعبه ودولته، عبر قراراتٍ وسياساتٍ غير شعبيةٍ مطلقاً.
وفي سياق انتفاض شعبي غير مسبوق، للشعب اللبناني، لوحظ على خطابات السلطة والسلطويين، في واقع أزمات ومآزق هؤلاء، "استفراغ" هذه الخطابات وسط فضاءاتٍ فصامية، بعيدة عن أي واقع أو وقائع، وهذا ما لا ينسجم مع أي خطابٍ سياسيٍّ لشخوص الدولة، ممن يحترمون أدوارهم ووظائفهم، وما يمثلون من خدمةٍ عامةٍ لمصالح شعبهم وتطلعاته، لا التمثيل عليه وخداعه بأضاليل خطابات وسياسات لفظية ضيقة، لا هي انفتاحية، ولا هي موجّهة إلى جمهور وطني أوسع من
جمهور الطائفة، أو "جماهير" التمذهب الطوائفي، كما هو حاصل في وضع لبناني مفتوح على كل الاحتمالات والمخاطر والمغامرات غير مأمونة العواقب، لا على صعيد السلطة القهرية، ولا على صعيد الناس المقهورين الذين يفتقدون اليوم، في حراكهم الانتفاضي الراهن، وجود أو تشكل قيادة تنظيمية أو سياسية، في ظل تجاوز حركة الشارع كل الأحزاب والكتل والتيارات السلطوية المنظمة وغير المنظمّة، على محدودية جمهورها، ومحدودية أهدافها واستهدافاتها الغالب عليها هدف الدخول في شراكةٍ مع السلطة القائمة بالقمع والقهر والنهب، أو التقدّم خطواتٍ نحوها؛ ما يعني فقدان الناس القوة التنظيمية القيادية الموجهة، وفقدان بوصلة تحديد الأهداف السياسية التي يتطلّبها الحراك الانتفاضي، في ما يلائم وينسجم وتحقيق أهداف وتطلعات شعبٍ، طالما افتقد ويفتقد، حتى اللحظة اللاهبة والمتفجرة الآن، أي مركز قيادي وطني منظّم، خليق باحترام الأغلبية الشعبية الوطنية العامة، العابرة للطوائف والمذاهب، ولممثليها من سياسيين وسياسات التعهير السياسوي القائم على النهب وسرقة المال العام وإفقار الناس وتجويعهم، وتدمير كل أسس الدولة وبنيتها، ونهب كل ما طاولته أياديهم وأرجلهم من أموالٍ وأراضٍ وممتلكات وسمسرات، والاعتداء الدائم على حرمة المال العام.
هو سحر السلطة ولمعانها المخادع، ما يراد تسييده في بلادنا، هدفاً سامياً يخادع السلطويون عبره شعبهم وحتى جمهورهم، في تهيئة منهم لواقع يزاوج بين هدف السلطة الدائم وهدف استمرار سلطة علاقات الهيمنة القهرية، في تغييب متعمد لمفهوم الدولة وتجاهل كل أسسها وأركانها، وتوظيف القضاء في خدمة سلطة القمع والترهيب، وتمهيد الطريق الدائم لأهل هذه السلطة، لاستمرارهم حاكمين، ناهبين سارقين من دون رقابة أو محاسبة.
لم تتشكّل السلطة في بلادنا إلا بصورة قهرية وإكراهية، حين يستبد "القوي" بمصائر الضعفاء، ويخدعهم بوعوده الكاذبة، ولا يقدّم لهم سوى الفتات، ومنهم مَن يُحرَم إياه حتى، إذا لم يُذعن
بين حينٍ وآخر، وعند منعطفاتٍ معينة، تبالغ السلطة بأفراحها الفاجرة التي تجدّد لها إكسير حياتها، واستمرارها سيدة علاقات الهيمنة وتوزيع أدوار الزعران والأتباع والأزلام وسحّيجة المناسبات، وليس أفضل من مواسم الانتخابات للقيام بهذه المهمة المحدّدة سلفاً، حتى ولو أدّى الأمر إلى تهديد السلم الأهلي، وهزّ الاستقرار ونصب المتاريس بين المتصارعين على سلطةٍ، أريد اختراعها لمصلحة من يُراد لهم الاستمرار في خدمة أهل سلطةٍ أعلى داخلية، ممسوكة بقوة الاستتباع لمصلحة أهل سلطات عليا خارجية.
كل هذا في غياب الدولة كمؤسسة نزيهة محايدة، خسرت من هيبتها ومن أدوارها الكثير، بل انتزعت منها انتزاعاً من سلطة أمر واقع، كرّست وتكرّس نفسها بديلاً للدولة وللدستور وللمؤسسات، حتى القضاء في هذه الحالة دخل شريكاً مضارباً كي يغطي ارتكابات مراكز القوى، ويمهّد لأقويائهم الماليين والسياسيين، بمعونة بعض الأمنيين والعسكريين دروب الهيمنة السلطوية، والاستفراد بها وتوزيع مغانمها على الأتباع وشركاء الفساد والنهب والإفساد وخبراء الرشى والارتشاء. وفي الأخير، يحاولون إقناعنا بأن ما تحكمنا هي الدولة، بينما الأخيرة مجنيٌّ عليها، كانت قد فقدت كل ما له علاقة بكينونتها وطبيعتها على أيدي سرّاق الدولة والمال العام الذين كانوا، بالتدريج، قد سطوا على المال العام، وكوّنوا مع ثرواتهم الحرام سلطتهم المحرّمة، ومعها أورثوا أنفسهم وأسرهم وعائلاتهم؛ ليس السلطة وآليات اشتغالها فحسب، بل والثروة وعلاقات الهيمنة سواء بسواء.
لا تخادع الدولة شعبها، السلطة هي التي فعلت وتفعل، أهل السلطة هم الأكثر مخادعةً للناس من أجل مصالح لهم أضحت وتضحي وكأنها الحق الذي لا يُعلى عليه، فيما مصالح العموم تتعرّض يومياً للمخادعات المتواصلة والخيانات المرتكبة بغير وجه حق، وهي مخادعات سلطةٍ لا مخادعات دولة، ففي حين ينتمي فيه الدستور ومحدّدات الحقوق والواجبات إلى فضاء الدولة، تنحرف السلطة بآليات ومعايير سطوتها السلطوية إلى سلب حقوقٍ كثيرة، وإضفاء واجباتٍ عديدة على مواطني الدولة.
تؤكد أنظمة سياسية عديدة قائمة في بلادنا، كونها مجرّد سلطةٍ أبعدت ذاتها عن فضاءات الدولة، وكوّنت مصالحها الخاصة والزبائنية، بعيداً عن قوانين الدولة الحديثة ومعاييرها، حتى بدت وتبدو آليات تلك القوانين والمعايير غير مؤهلةٍ مطلقاً لإنتاج دولة عصرية، بقدر ما أنتجت تجارب
وفي سياق انتفاض شعبي غير مسبوق، للشعب اللبناني، لوحظ على خطابات السلطة والسلطويين، في واقع أزمات ومآزق هؤلاء، "استفراغ" هذه الخطابات وسط فضاءاتٍ فصامية، بعيدة عن أي واقع أو وقائع، وهذا ما لا ينسجم مع أي خطابٍ سياسيٍّ لشخوص الدولة، ممن يحترمون أدوارهم ووظائفهم، وما يمثلون من خدمةٍ عامةٍ لمصالح شعبهم وتطلعاته، لا التمثيل عليه وخداعه بأضاليل خطابات وسياسات لفظية ضيقة، لا هي انفتاحية، ولا هي موجّهة إلى جمهور وطني أوسع من
هو سحر السلطة ولمعانها المخادع، ما يراد تسييده في بلادنا، هدفاً سامياً يخادع السلطويون عبره شعبهم وحتى جمهورهم، في تهيئة منهم لواقع يزاوج بين هدف السلطة الدائم وهدف استمرار سلطة علاقات الهيمنة القهرية، في تغييب متعمد لمفهوم الدولة وتجاهل كل أسسها وأركانها، وتوظيف القضاء في خدمة سلطة القمع والترهيب، وتمهيد الطريق الدائم لأهل هذه السلطة، لاستمرارهم حاكمين، ناهبين سارقين من دون رقابة أو محاسبة.