هناك شيء مريب وغير مفهوم يحدث حاليا في مصر، وتحديدا داخل سوق الصرف، وهو حدوث قفزات متواصلة في سعر الدولار أمام الجنيه، والريبة هنا تكمن في أنه عدم وجود مبررات قوية وعقلانية لهذه القفزات، أو لفقدان العملة المحلية نحو 30% من قيمتها خلال العام الجاري فقط.
نعم هناك أزمة في النقد الأجنبي داخل البلاد، تعترف بها الحكومة قبل المواطنين، وهناك تراجع في موارد البلاد الدولارية، خاصة من قطاعات حساسة وضرورية، مثل السياحة والصادرات وتحويلات العاملين في الخارج، وهناك أيضاً زيادة كبيرة في عمليات الاستيراد من الخارج، خاصة الاستيراد العشوائي، مع قرب قدوم شهر رمضان الذي يزداد فيه الاستهلاك من قبل الأسرة المصرية لمعدلات قياسية.
وهناك إقبال على شراء العملات الرئيسية، ومنها الدولار والريال السعودي من قبل شركات السياحة والمعتمرين مع قرب عمرة رمضان، ولا أستبعد أيضا قيام المستثمرين والمستوردين والتجار بشراء كميات كبيرة من الدولار، تجنباً للتعرض لخسائر من جراء احتمالية ارتفاع سعره، إذا ما تصاعدت حدة التظاهرات خلال الفترة القادمة، خاصة يوم الإثنين القادم 25 إبريل/نيسان، أو زادت حدة الخلافات بين مصر ودول الاتحاد الأوروبي على خلفية عدم التوصل إلى حل لأزمة الطالب الإيطالي ريجيني، أو إذا ما أقبل البنك المركزي على إجراء خفض جديد في قيمة العملة المحلية بسبب تراجع إيرادات البلاد من النقد الأجنبي وفي محاولة منه لتقليل الفجوة بين السعرين الرسمي في البنوك والمتداول في السوق السوداء والتي تزيد حاليا عن 2.25 جنيه.
كل ذلك منطقي ويعد أسبابا وجيهة تفسر جزءاً من المشهد الحالي لاضطرابات سوق الصرف وقفزات سعر الدولار، لكن هذه الأسباب وحدها لا تبرر هذا الارتفاع القياسي والجنوني في سعر الدولار، والذي زاد مقابل العملة المحلية بنسبة تقترب من 10% في أقل من أسبوع، علماً بأن هذه الزيادات خطيرة، ولا يجب الاستهانة بها، لأنها تضغط على أسعار السلع بشكل حاد خاصة المتعلقة بالسلع الغذائية والأدوية أو المواد الخام والسلع الوسيطة.
يدعم وجهة نظري التي ترى أن ما يحدث في سوق الصرف المصري "مريب" وغير مبرر، التصريحات الصادرة قبل أيام عن وزير المالية والتي يؤكد فيها قرب وصول مليار دولار من قرض البنك الدولي، وهو ما يعني أن هناك سيولة دولارية سيتم ضخها في السوق، كما يدعمها عدم انسحاب المستثمرين الأجانب من البورصة حتى مع تصاعد المخاطر السياسية والأمنية الأخيرة، ذلك أن الانسحاب المفاجئ لهؤلاء يمثل ضغطاً شديداً على سوق الصرف، فالحكومة لم تعلن عن خروج المستثمرين من أدوات الدين الحكومية، أو التخلص من استثماراتهم في أسواق الأسهم والسندات والأذون التي بحوزتهم.
إذن ما هو تفسير ما يحدث؟
هناك عدة تفسيرات يمكن طرحها هنا، وإن كان بعضها لا يوجد دليل يؤيده من أرض الواقع، في ظل التعتيم الشديد الذي تمارسه الحكومة في هذا الملف الحساس والمهم لكل قطاعات الشعب المصري، وأبرز التفسيرات من وجهة نظري:
- قيام الحكومة بشراء كميات كبيرة من الدولار من السوق، ومزاحمة التجار والمستثمرين على ما هو متاح من نقد أجنبي في السوق السوداء، حتى تجمع 1.7 مليار دولار هو حجم دين مطلوب سداده بداية شهر يوليو/تموز القادم، وهذا المبلغ لا يمكن سحبه من احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، لأنه لا يتحمل ذلك، خاصة مع وصول الاحتياطي إلى مرحلة حرجة، ويغطي بالكاد واردات البلاد لمدة ثلاثة أشهر.
- إحباط الناس الشديد من التصريحات الحكومية المبالغ فيها، والتي أكدت فيها إبرام مصر اتفاقات مع السعودية بقيمة 41.6 مليار دولار، واتفاقات مماثلة مع فرنسا وألمانيا والصين، وهذا الإحباط ربما دفع المضاربين وأصحاب المدخرات والثروات نحو حيازة مزيد من الدولارات وبأي سعر، للحفاظ على أموالهم بالعملة المحلية من التآكل، وتحقيق أرباح مستقبلية في حال مواصلة العملة الأميركية ارتفاعها.
وربما يدعم الطرح الأخير عدم خروج أي مسؤول في الدولة بتصريح، ولو مقتضباً، يتحدث فيه عن كيفية تعاطي الحكومة مع الأزمة العنيفة الحالية، خاصة على مستوى ارتفاع الأسعار المتوقع، وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين، وتراجع قيمة مدخراتهم بالعملة المحلية.
- خروج المستثمرين الأجانب من السوق، خاصة من أذون الخزانة التي لديهم استثمارات ضخمة فيها، تقدّر بمئات الملايين من الدولارات.
هذه مجرد تكهنات في ظل عدم صدور أية تفسيرات رسمية تبرر سرّ سكوت الحكومة على أزمة تهاوي العملة الوطنية.