19 أكتوبر 2024
سلامة كيلة الذي انتصر للفكر والثورات
عرفته لمّا خرج من معتقله الأول عام 2000، وظلَّ الأمر كذلك إلى أن طُرد من سورية بعد اعتقاله الثاني 2012 ثلاثة أسابيع. بعد المنفى الإجباري، تراجع التواصل، وهي حالة أغلبية الناس، وهذا أسوأ ما حدث لأهل الداخل والخارج. سلامة كان كثير المشاريع، وبالتأكيد ترك مسوّدات كثيرة لم تنشر بعد، ومتخصّصة بشؤون اليسار السوري والفلسطيني والعربي ومنذ نشأتها، وكثيراً ما تجده منشغلاً بكتابة نصوص نقدية، تعالج مشكلات ذلك اليسار، لعلَّ وعسى أن يصبح يساراً! اليسار الذي أرهقه وكَفَّرَه، وبالنهاية شيطنه وجعله مُلحقاً بدولة قطر وبالمفكر عزمي بشارة بالتحديد؛ والخفّة هنا لا حدود لها.
بدأ منذ الثمانينيات مشروعه النقدي؛ فلم يكن عضواً في حزب، بل باحثاً في كيفية النهوض باليسار العربي، وتأسيس مشروع ماركسي عربي، يجمع بين الماركسية والقومية، في إطار نهج ماركسي عربي بدأه رئيف خوري، ولم ينته بإلياس مرقص وياسين الحافظ، وعشرات الباحثين والمفكرين الماركسيين العرب. لم تكن قضية فلسطين وحدها الهدف، بل النهوض بالعالم العربي بأكمله، وباعتبار فلسطين محتلة، فإن تحريرها يقع على هذا العالم. ومن هنا، لم يتوقف عن التنظير للتغيير العربي، بقصد الانتقال الديمقراطي، ولصالح الطبقيات الشعبية، ومن أجل تحرير فلسطين، وتشكيل الدولة الفلسطينية الواحدة، ورفضَ التمرحل وحل الدولتين وأوسلو، وكل مشروع السلطة على جزءٍ من أراضي 1967.
لم يقترب سلامة من الجبهات اليسارية الفلسطينية (الشعبية والديموقراطية والحزب الشيوعي)،
وكانت تتهمه بأنّه سوري. وهذا كان مصدر فخر لديه، فقضية بحجم فلسطين لا يمكن لمنظمات كتلك أن تتصدى لها؛ كان يجب أن تحلّ نفسها بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان 1982، وكذلك بعد "أوسلو"، حيث أصبحت عبئا على قضية فلسطين واستعادتها. كما لم يكن من أنصار هذه الجبهات، وكذلك لم يكن من أنصار القوى اليسارية السورية الملتزمة بالجبهة الوطنية التقدّمية. كان موقع سلامة في سورية في إطار استنهاض اليسار السوري، بكل تنويعاته، ولم ينخرط بأيٍّ من تشكيلاته (المكتب السياسي، أو حزب العمل، وسواها). وقد سُجن، وهو يحاول إيجاد صلاتٍ بين قوى ذلك اليسار المتحاربة، وكذلك كان يسعى إلى تشكيل "تنظيمه اليساري السوري". نقدية سلامة هي ما تميز مؤلفاته وتفكيره، وما أحدث مشكلة حقيقية معه هي قوميته بالتحديد، وهي التي ظلّت أقرب إلى التهمة له من اليسار "السوفيتي" أكثر مما هي صفة تميّز مؤلفاته وتحليلاته.
سلامة الذي وثِقَ بالطبقات الشعبية لاستنهاض عالمنا العربي، حيث لا مشروع للطبقات البرجوازية التابعة، رأى أن اليسار "القومي" وحده القادر على القيام بذلك الدور. شكّلت قوة الأحزاب الشيوعية، في السبعينيات وقبلها وبعدها وحتى التسعينيات، سبباً وفرصةً، ليحاول التغيير من خلالها. ولهذا كانت كتبه الأولى لمواجهة المشكلة التنظيمية، والتخلص من عقلية القرون الوسطى التي كانت تدار بها تلك الأحزاب، ولتشكيل كتلةٍ ثوريةٍ واعيةٍ بشروط مجتمعها، وقادرة على إنجاح ثورة اشتراكية، كما حال الصين وفيتنام وروسيا وسواها؛ فكتب في الشأن التنظيمي"نقد الحزب" و"الثورة ومشكلات التنظيم، وكذلك "نقد التجربة التنظيمية الراهنة"، وكتب كثيراً عن "الماركسية والعرب". وحينما اعتقل، عاد إلى الشغل على موضوع المنهج بشكل خاص، فأنتج كتابين ضخمين، "من هيغل إلى ماركس" و"التفسير المادي للتاريخ"، فقد كان يعمل على مواجهة الانتقال اليساري إلى الليبرالية الواسعة حينها. ولاحقاً، وبعد الإفراج عنه، تابع في الشأن المنهجي، وخَطّ عشرات الكراسات والكتب عن المنهج الماركسي. وعدا ذلك كتب مناهضاً العولمة "العولمة الراهنة"، وكان أحد مؤسّسي منظمة "ناشطو مناهضة العولمة في سورية".
وعمل سلامة كيلة على إعادة قراءة "التراث والمستقبل" و"مقدمة عن مشكلة الأرض في الإسلام"، وأنتج عشرات الكتب عن مشكلات الماركسية والاشتراكية واليسار العربي. وبعد الثورات، لم يتأخر في الانضمام إليها، وكان من مؤسسي تنظيم "ائتلاف اليسار السوري". وللحق هو من القائلين إن ثورات عربية قادمة قبل 2011، ومقالاته الأسبوعية في "العربي الجديد" ومنابر أخرى، تؤكد أن الثورات لن تتوقف؛ فهي حدثت لأسبابٍ تتعلق بتعميم سياسات الليبرالية الجديدة، وظهور كتلة ضخمة من المُفقرين، وبسبب فشل مشاريع التنمية، وكذلك بسبب طبيعة الأنظمة العربية الاستبدادية، فهي برأيه أنظمة نهب وفساد، وفي إطار علاقة تبعيةٍ لمصلحة الرأسمالية العالمية. إذاً، لن تتوقف الثورات العربية في العقود التالية، وأسباب تفجّرها قائمة، وستنفجر.
حَلّل الثورات العربية بعد 2011، وأنتج مؤلفات لتفكيك مشكلاتها، وكيفية تطويرها، "ثورة حقيقية: منظور ماركسي للثورة السورية" و"ثورة مصر، الصراع الطبقي المفتوح" و"وضع الثورات العربية ومصيرها" و" مصائر الشمولية - سورية في صيرورة الثورة". وكانت مقالاته في الصحافة منذ 2011، وحتى يوم رحيله في 2 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، منشغلة بكليتها بقضية الثورات، وبتعقيدات الوضع الفلسطيني.
يعدّ راحلنا من أشدَّ المدافعين عن الماركسية، لكونها منهجية فكرية ونظرية، تسمح بفهم العالم والثورات، وقد جادل طويلاً قبل الثورة وبعدها في طبيعة المجتمعات العربية، ومشكلات سورية. كانت رؤيته للثورة السورية وسواها أنها شعبية، وهي نتائج الإفقار المنظم والناتج عن سياسات الليبرالية والخصخصة، لكنه لم يتجاهل قضية الأقليات الدينية والقومية والطائفة
العلوية، لكن نقاشها لا ينطلق من رؤية قروسطية، تقول إن مجتمعاتنا لم تتبلور برجوازيا وطبقياً، وأنّها ما زالت طوائف ومناطق وأديانا وإثنيات، وهو رأي يقوله ليبراليون وطائفيون سوريون كثر. وهناك من صنّف الثورة سنيّة والنظام علويا وحامي الأقليات؛ لكن سلامة ظل يرفض منطق التطييف "القروسطي هذا" ويرفض القائلين من "العلمانيين" بأنها ليست ثورة، ويرفض القول إنها ثورة طائفة. فكل تطورات الصراع لاحقاً في سورية، وتحول الثورة إلى "مجزرة" بمصطلح سلامة، كان بهدفٍ وحيد، هو إغلاق الأفق الذي فتحته الثورات العربية نحو تغيير الأنظمة. إذاً لا ينكر كل التغييرات بعد الثورات، وصعود الاسلام السياسي والسلفية والجهادية وحدوث إشكالية طائفية كبرى في سورية، لكن ذلك تطوّر من حالة إلى حالة، عبر سنوات الثورة والحرب والتدخل الإقليمي والدولي. ويرفض سلامة هنا الانغلاق على رؤية "طوائف وأديان وإثنيات"، كما يحلّل تيار في المعارضة السورية، وهو ما يتلاقى مع رؤية النظام الأيديولوجية للثورة، ومن أجل تشويهها وتخريبها، بينما هو يوظف كل الممكنات السورية والإقليمية والعالمية المتحالفة معه من أجل إنقاذ نفسه، ولو احتُلَّت سورية، وهو ما حدث.
رفض سلامة كيلة كل رؤية تتضمن تصالحاً مع الأنظمة المعادية للثورات، وبرأيه ومهما تراجعت الثورات وهزمت، فإنّها ستتجدّد؛ فالأنظمة لن تتخلى عن برامج هيكلة الاقتصاد الليبرالية، وهي وصفة صندوق النقد الدولي، ومن أجل نهب المجتمعات العربية.
فراغٌ كبيرٌ حدثَ، قال عنه باحثون وأصدقاء كثر؛ المستقبل وحده من سيحسم كيفية الاستفادة من إرث هذا الباحث الذي عاش ناقداً، ومات وقد أغنى المكتبة العربية بنحو ثلاثين مؤلفاً.
بدأ منذ الثمانينيات مشروعه النقدي؛ فلم يكن عضواً في حزب، بل باحثاً في كيفية النهوض باليسار العربي، وتأسيس مشروع ماركسي عربي، يجمع بين الماركسية والقومية، في إطار نهج ماركسي عربي بدأه رئيف خوري، ولم ينته بإلياس مرقص وياسين الحافظ، وعشرات الباحثين والمفكرين الماركسيين العرب. لم تكن قضية فلسطين وحدها الهدف، بل النهوض بالعالم العربي بأكمله، وباعتبار فلسطين محتلة، فإن تحريرها يقع على هذا العالم. ومن هنا، لم يتوقف عن التنظير للتغيير العربي، بقصد الانتقال الديمقراطي، ولصالح الطبقيات الشعبية، ومن أجل تحرير فلسطين، وتشكيل الدولة الفلسطينية الواحدة، ورفضَ التمرحل وحل الدولتين وأوسلو، وكل مشروع السلطة على جزءٍ من أراضي 1967.
لم يقترب سلامة من الجبهات اليسارية الفلسطينية (الشعبية والديموقراطية والحزب الشيوعي)،
سلامة الذي وثِقَ بالطبقات الشعبية لاستنهاض عالمنا العربي، حيث لا مشروع للطبقات البرجوازية التابعة، رأى أن اليسار "القومي" وحده القادر على القيام بذلك الدور. شكّلت قوة الأحزاب الشيوعية، في السبعينيات وقبلها وبعدها وحتى التسعينيات، سبباً وفرصةً، ليحاول التغيير من خلالها. ولهذا كانت كتبه الأولى لمواجهة المشكلة التنظيمية، والتخلص من عقلية القرون الوسطى التي كانت تدار بها تلك الأحزاب، ولتشكيل كتلةٍ ثوريةٍ واعيةٍ بشروط مجتمعها، وقادرة على إنجاح ثورة اشتراكية، كما حال الصين وفيتنام وروسيا وسواها؛ فكتب في الشأن التنظيمي"نقد الحزب" و"الثورة ومشكلات التنظيم، وكذلك "نقد التجربة التنظيمية الراهنة"، وكتب كثيراً عن "الماركسية والعرب". وحينما اعتقل، عاد إلى الشغل على موضوع المنهج بشكل خاص، فأنتج كتابين ضخمين، "من هيغل إلى ماركس" و"التفسير المادي للتاريخ"، فقد كان يعمل على مواجهة الانتقال اليساري إلى الليبرالية الواسعة حينها. ولاحقاً، وبعد الإفراج عنه، تابع في الشأن المنهجي، وخَطّ عشرات الكراسات والكتب عن المنهج الماركسي. وعدا ذلك كتب مناهضاً العولمة "العولمة الراهنة"، وكان أحد مؤسّسي منظمة "ناشطو مناهضة العولمة في سورية".
وعمل سلامة كيلة على إعادة قراءة "التراث والمستقبل" و"مقدمة عن مشكلة الأرض في الإسلام"، وأنتج عشرات الكتب عن مشكلات الماركسية والاشتراكية واليسار العربي. وبعد الثورات، لم يتأخر في الانضمام إليها، وكان من مؤسسي تنظيم "ائتلاف اليسار السوري". وللحق هو من القائلين إن ثورات عربية قادمة قبل 2011، ومقالاته الأسبوعية في "العربي الجديد" ومنابر أخرى، تؤكد أن الثورات لن تتوقف؛ فهي حدثت لأسبابٍ تتعلق بتعميم سياسات الليبرالية الجديدة، وظهور كتلة ضخمة من المُفقرين، وبسبب فشل مشاريع التنمية، وكذلك بسبب طبيعة الأنظمة العربية الاستبدادية، فهي برأيه أنظمة نهب وفساد، وفي إطار علاقة تبعيةٍ لمصلحة الرأسمالية العالمية. إذاً، لن تتوقف الثورات العربية في العقود التالية، وأسباب تفجّرها قائمة، وستنفجر.
حَلّل الثورات العربية بعد 2011، وأنتج مؤلفات لتفكيك مشكلاتها، وكيفية تطويرها، "ثورة حقيقية: منظور ماركسي للثورة السورية" و"ثورة مصر، الصراع الطبقي المفتوح" و"وضع الثورات العربية ومصيرها" و" مصائر الشمولية - سورية في صيرورة الثورة". وكانت مقالاته في الصحافة منذ 2011، وحتى يوم رحيله في 2 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، منشغلة بكليتها بقضية الثورات، وبتعقيدات الوضع الفلسطيني.
يعدّ راحلنا من أشدَّ المدافعين عن الماركسية، لكونها منهجية فكرية ونظرية، تسمح بفهم العالم والثورات، وقد جادل طويلاً قبل الثورة وبعدها في طبيعة المجتمعات العربية، ومشكلات سورية. كانت رؤيته للثورة السورية وسواها أنها شعبية، وهي نتائج الإفقار المنظم والناتج عن سياسات الليبرالية والخصخصة، لكنه لم يتجاهل قضية الأقليات الدينية والقومية والطائفة
رفض سلامة كيلة كل رؤية تتضمن تصالحاً مع الأنظمة المعادية للثورات، وبرأيه ومهما تراجعت الثورات وهزمت، فإنّها ستتجدّد؛ فالأنظمة لن تتخلى عن برامج هيكلة الاقتصاد الليبرالية، وهي وصفة صندوق النقد الدولي، ومن أجل نهب المجتمعات العربية.
فراغٌ كبيرٌ حدثَ، قال عنه باحثون وأصدقاء كثر؛ المستقبل وحده من سيحسم كيفية الاستفادة من إرث هذا الباحث الذي عاش ناقداً، ومات وقد أغنى المكتبة العربية بنحو ثلاثين مؤلفاً.