أنهكته السنوات التي قضاها في السجن. بالكاد بلغ الثلاثين من العمر، لكن خالد الجبلي، يبدو أكبر من ذلك بكثير، فَمه يكاد يخلو من الأسنان من فرط التدخين.
وجهه شاحب وعينان سكنهما القلق. أراد تجريب حياة خالية من المتاعب، أخذ خالد عهداً على نفسه بألا يعود إلى السجن، الذي دخله مرات عديدة بسبب اعتراض سبيل المارة. يلعن المخدرات التي يقول، إنها كانت تغذي العنف الذي كان يعامل به الناس.
يحاول تدارك ما فات، وأول خطوة في طريق العودة إلى جادة الصواب، كما يقول، كانت البحث عن مورد رزق، يريد أن يعطي لحياته معنى. فكر كثيراً، واهتدى إلى أن الحل في عربة يعرض عليها سندويتشاً مغربيّاً بامتياز، يطلق عليه "الطون".
الطون ملاذ المغاربة، الباحثين عن أكلة خفيفة رخيصة وتفي بالغرض المتمثل في التحايل على المعدة التي تطلب الغذاء. سمك الطونة المصبر، وطماطم، وبصل. في نصف خبزة تعرف بـ" الباريسي". أغلب الذي يطلبون الطون يحرصون على أن يضاف إليه شيء من الفلفل الحار.
ذلك السندويتش له رواده من أصحاب المحلات الذين أتقنوا قواعد الصنعة في مدينة الدار البيضاء. أشهرهم محلات "با التهامي" و"باكزوم"، لكن عندما تثير هذا الموضوع في مقهى الحي، يذكرك بعضهم بأسماء أخرى، لها باع طويل في توفير سندويش الطون في المدينة، أحدهم يذكر "با نوفل"، و"بسعيد".
وما يجذب الناس إلى بعض المحلات، هو نوع الخبز الذي يستعمله، وطريقة إعداده ومدى الاهتمام بالزبائن، وغالباً ما تختار العديد من الأسر المغربية سندويتشات من المحلات الشهيرة، في وجبة العشاء.
اقرأ أيضاً: البطالة تصيب 1.16 مليون مغربي
الجبلي كما العديدين أمثاله أراد السير على نهج هؤلاء الرواد. ممارسة ذلك النشاط لا يقتضي رأس مال كبيراً. خالد اقترض خمسين دولاراً من أحد أصدقائه. حيث اشترى سمكاً مصبراً، و طماطم، وبصلاً، فلفلاً.. ومشروبات غازية يطلبها الزبائن. أما العربة، فقد تكفل والده بتوفيرها له. ذلك الوالد بدا سعيداً بولده الذي بدا عاقداً العزم على وضع حد لحياة مضطربة، قادته إلى السجن منذ أن كان مراهقاً.
تتراوح أسعار السندويتش بين 50 و60 سنتاً. ربح خالد وأمثاله من الشباب الذين يعملون في هذا المجال، يتراوح بين 20 و30 سنتاً في الساندويتش الواحد. يبدو سعيداً وهو يدفع عربته.
فمنذ شهرين عندما شرع في مزاولة ذلك النشاط، أضحى يؤمن لنفسه ربحاً يصل إلى ما بين 10 و12 دولاراً في اليوم. يبدو راضيّاً وقانعاً، لكنه، اليوم، يخشى شيئاً واحداً. وهو دوريات الأمن التي اعتادت تطلب من العاملين، في هذا المجال، إخلاء الشوارع. فهم في حكم الباعة الجائلين.
في سوق القريعة الشهير، في الدار البيضاء، اصطفت عربات من يعرضون سندويتش "الطون". تقبل عليهم جميع الفئات من شباب و نساء و أسر.. فلتلك الأكلة مكانة خاصة في نفوس المغاربة، خصوصاً الفقراء منهم، الذين لا تسمح لهم إمكانياتهم المالية، بتناول أكلات أخرى تبدو لهم غالية الثمن.
أغلب أصحاب العربات شباب، تتراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين. منهم من اختار بيع السندويتشات في البداية، في انتظار الحصول على فرصة عمل قار، لكنه ما لبث أن ألف هذا النشاط، الذي يدر عليه أكثر من الحد الأدنى للأجور في المغرب.
ويبدو إبراهيم الخريف، سعيداً ببيع سندويتشات الطون. اعتاد الابتعاد عن سوق القريعة. يقف وراء عربته أمام إحدى الثانويات. ألف التلاميذ وجوده، حيث يقبلون عليه، ويبدي الكثير من التجاوب مع طلباتهم، حتى أولئك الذين لا يمكنهم الأداء في الحين.
هو يعتبر أن تلك العربة، رأسماله التجاري، وقد تمكن من نسج علاقات مبنية على الثقة مع زبنائه، خصوصاً أن ذلك السندويتش، يمكن إذا لم يحترم بائعه المعايير الواجبة، أن يصيب آكله بالتسمم، نظراً لحساسية سمك الطونة.
الخريف يؤكد أنه بفضل ذلك السندويتش، يتمكن من الإنفاق على والديه، وتحمل مصاريف زوجته وولديه. ويعتبر بأن ربحه، قد يصل في اليوم إلى 15 دولاراً. ذلك دخل يحرص على عدم التفريط فيه، لأن تكاليف الحياة مرتفعة.
الأكلات السريعة التي انتشرت في الأعوام الأخيرة، في المغرب، لم تنل من حظوة سندويتش الطون لدى الأسرة المغربية، خصوصاً الفقيرة، منها. هذا ما يجعل متسعاً في السوق لكل من جعل من ذلك السندويتش مصدر رزقه.
تستغرب كثرة العربات أمام سوق القريعة. فيجيب عزوز الحداوي، بأن "الحوانت مصافة (العربات مصطفة) والأرزاق مختلفة". هذا شعار أولئك الباعة، الذين يبدون ثقة كبيرة في عملهم.
اقرأ أيضاً: البطالة تتفاقم وسط شباب المغرب