سورية.. الولد ورزقه في بلد اللجوء
لم تعد الشعارات خبزاً يومياً للشعب السوري، كذلك الأحلام والطموحات لم تعد متعته الروحية السورية. عندما تغيب ملامح الحياة، ويصبح العيش نضالاً لحظياً في وجه الموت الذي نبتت له آلاف الأذرع، ونُفخت فيه مثلها من النيات، لا يعود من المجدي الوقوف في وجه الأسئلة الكبرى، فمساحات الوعي المترف تضيق حتى تكاد تنعدم، بل إن الأهداف تتواضع، وتنحشر في زاوية المثالية المؤجلة التي لا مكان لها في واقع يفرض، مع شروق كل صباح، ذرائعيته النهمة.
لم يعد البركان يحرق المناطق المشتعلة، فحممه وصل لهيبها إلى الشواطئ المغمورة بالماء، ولم يعد للماء قدرته على إطفاء حرائق الجوع، وانعدام الأمن والأمان وانغلاق سبل العيش. وطن منكوب من أقصاه إلى أقصاه، يلوب أبناؤه خلف قطرة أمل ترطب أرواحهم اليابسة، ولا أمل. لماذا مطلوب من الآباء أن يقدموا أبناءهم وقوداً لحرب لا ترتوي، ولا تريد أن ترتوي؟ وفي المقابل، من بقي على حدود الموت يحاصره الهلاك بأنياب مدماة، فلا الجوع يرحم، ولا البرد، ولا المرض، ولا شيء في هذه الحياة التي لا تشبه الحياة، في هذا الواقع البائس البارع في سورياليته؟
صارت أحلام غالبية السوريين هي الفرار، الهروب، الخلاص من طاحونة الموت، ومن إعجاز السؤال: لماذا كل هذا الموت ومن يدعمه؟ فنراهم لاجئين في دول الجوار، وفي مناطق أبعد وأكثر بعداً، حاملين معهم خيباتهم، وذاكرة تنمو وتتفاعل في أعماقهم بأشكال شتى.
إن كان هناك بقية من حلم بوطن سوري واحد، قادر على العيش مستقبلاً، فلا بد من الالتفات إلى مشكلات متنوعة وعديدة، تتمكن من السوريين، ليست المشكلات هي التي يواجهها الداخل السوري، على جسامتها، فحسب، بل مشكلات السوريين في الخارج، أولئك الذين هجّرتهم الحرب الرهيبة من بيوتهم، فطفروا في بقاع الأرض.
ينشغل العالم بمشكلات اللاجئين، خصوصاً المقيمين في دول الجوار وفي المخيمات، الذين يتعرضون لأبشع أنواع العذاب اليومي والجوع والفقر والبرد، أطفال بلا مدارس، ولا رعاية صحية، ولا أحلام حتى، يكبرون وتكبر الأسئلة في مداركهم، من دون أن يلاقوا أجوبة عليها.
السوريون اللاجئون إلى الدول الأوروبية، منهم من ركب المخاطر، وجازف بحياته، وفقد من فقد في رحلة الوصول إلى بلد أوروبي، طمعاً بما تقدمه حكومات هذه البلدان للاجئ من مسكن وضمان صحي، وراتب يخوله العيش مع أولاده، لهم مشكلاتهم الاجتماعية والإنسانية، كما لأمثالهم من لاجئي المخيمات، يجب الالتفات إليها وضبطها واحتواؤها، قبل أن تتفاقم وتصبح عقداً مستعصية، أو قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في لحظة ما، ما سيؤدي إلى نتائج سيئة ترتدّ إليهم.
للحروب طبائعها ونتائجها وإمعانها في هتك الشعوب والمجتمعات، والتاريخ حافل بهذه "المحافل" التي تدلّ على أنها الوضع الطبيعي للبشرية، قياساً بفترات السلام التي عمت العالم منذ القدم، وكانت قصيرة، بحيث يمكن نسيانها. هناك شعوب استفادت من تجاربها الكارثية، فنهضت وبنت دولاً وأوطاناً، وشعوب أخرى تشبهنا لا زالت تجتر الماضي، وتبتلعه، وتعتبره المثال والنموذج، وإكسير حياتها. ولقد برهنت الحرب الدائرة في سورية أننا شعب مغيّب الوعي، وقاصر عن إدارة حياته، والانتباه إلى مشكلاته وحلّها، وهذا ما كانت ملاحه جلية في بعض جوانبها في السنوات الماضية. كانت برامج التثقيف الصحي وفعالياتها تُواجه بمصاعب وتحديات كثيرة، على علاقة بمستوى الوعي والتعلق بالموروث الشعبي والمقولات التي هي بمثابة قوانين غير منظورة، تدير حياة المواطنين في مناطق سورية عديدة، فمفهوم تنظيم الأسرة والرعاية الصحية الأولية كان أمراً مرفوضاً بالنسبة لهؤلاء الناس، يعتبرونه تعدياً على منظومتهم الحياتية، وانتهاكاً لمعارفهم وعلومهم التي اكتسبوها بالتوارث، مدعومة بالفتاوى الدينية والعشائرية، أو بما يدعم تماسك القبيلة ويعزز بداوتها، فكانوا يهرّبون أطفالهم أمام فرق التلقيح الجوالة، ويستهزئون ببرامج التوعية وتوصياتها حول تحديد النسل والفواصل الزمنية اللازمة بين حمل وآخر، مراعاة لصحة الأم، ولإفساح المجال للطفل، لكي يأخذ حصته من الاهتمام والرعاية. كيف لا، ولا زال نمط التفكير الزراعي، أو البدوي، يتمسك في العقل الجمعي للناس؟ الحاجة إلى الأبناء للاستفادة من قوتهم الإنتاجية في الأرض، وزيادة أعداد القبيلة ورجالها تحديداً، على الرغم من دخول المدنية إلى الحياة، إلاّ أن كثرة الإنجاب وتعدد الأولاد بقي هدفاً بحد ذاته، هدف مرتبط بشبكة من الضروريات والحوامل المعرفية، ومسندة إلى موروث شعبي، تحمله الأمثال والحكايات "فالولد يأتي ويأتي رزقه معه"، ربما دفعت المرأة ضريبتها على كل الأصعدة، وبعدها الأبناء المحرومون من حقوق الطفل بداية، والإنسان البالغ فيما بعد.
في مخيمات اللجوء، لم يختلف الوضع، على الرغم من الحياة البائسة التي يعيشها السوريون، والذي يتابع أمر الزواج والتكاثر هناك يصاب بالذهول، جوع وفقر وبرد ومستنقعات وأمطار وثلوج وطين وأوحال وأطفال عراة ومساكن لا تحمي من برد أو حر، ومع هذا يستمر الإنجاب. تقول إحصائية إنه في تركيا وحدها وُلد أكثر من سبعة وستين ألف مولود لدى اللاجئين السوريين، في أثناء الأزمة. وفي البلدان الأوروبية، لا يختلف الأمر كثيراً، تدمي بعض القصص القلب، وتدفع إلى الذهول، سيدة لا يتجاوز عمرها 22 عاماً تضع وليدها الخامس في مدينة ألمانية، وقد حصل الحمل في أثناء رحلة الهجرة غير الشرعية التي استمرت ستة أشهر.
سوريون يعيشون على ما فطروا عليه، في مجتمعات يمكن أن تقدم نموذجاً للحياة البديلة التي هي أكثر ما يحتاجون إليها، لكنهم، في غالبيتهم، منغلقون على ذواتهم، غير مكترثين بالانفتاح على المجتمعات المضيفة، وغير طامحين بتعلم لغتها التي هي مفتاح الدخول إلى تلك المجتمعات، والاستفادة من خبرتها التي منحتها إياه التجارب. كذلك في المخيمات وأماكن اللجوء الأخرى التي يعيش فيها السوريون، تحت رحمة ظروف شديدة الشراسة، لا تليق بإنسانيتهم، هم يحتاجون إلى التوعية. يركز معظم المشتغلين في قضايا اللاجئين على الحالة الإغاثية والمعيشية، بالدرجة الأولى. لكن، من المجدي العمل على رفع مستوى الوعي، من المفيد تنبيه اللاجئين إلى تبعات التكاثر السريع والإنجاب المتعدد، في ظروف من هذا النوع. من المجدي، أيضاً، العمل على تشجيع السوريين، في الدول الأخرى، على محاولة الاندماج مع المجتمع المضيف، ومساعدتهم على إدارة حياتهم بشكل يضمن لهم الاستفادة القصوى من المعطيات المتاحة أمامهم.