سورية.. حلول جزئية وحوارات والمطلوب واحد
شهدت الأزمة السورية، منذ مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، جملة من التحركات الدبلوماسية، وبروز مواقف سياسية لافتة، كان من أبرزها المشروع الذي تقدم به المبعوث الأممي، دي ميستورا، بتجميد القتال في حلب، وهي خطة سبق لكوفي أنان أن طرحها كإجراء موضعي، تتبعه إجراءات أخرى. لاقى المشروع المتواضع والجزئي قبولاً من النظام، واستجابة مشروطة من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والجيش السوري الحر. وطار ميستورا إلى القاهرة، لتسويق مشروعه، وكانت العاصمة المصرية قد شهدت تحركات على خط الأزمة، من أبرزها استقبال وزير الخارجية المصري، سامح شكري، وأمين عام جامعة الدول العربية، نبيل العربي، رئيس "الائتلاف"، هادي البحرة.
ثم جاءت زيارة رئيس الائتلاف السابق، معاذ الخطيب، إلى موسكو 7 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تلبية لدعوة من وزارة الخارجية الروسية، وامتداح الخطيب أجواء الزيارة، فيما اعتبر الائتلاف أن زيارة الخطيب والوفد المرافق شخصية، ولا تمثل هيئة المعارضة العليا.
هنا، إن التحركات الروسية محكومة برؤية موسكو للأزمة، من موقعها، شريكاً بصناعة القرار في دمشق، وشريكاً في الأزمة، ويرغب الكرملين، الآن، في أجواء من تدخلاته الفظة في شرق أوكرانيا، برعاية حوار بين أطراف الأزمة السوريين، تسمح له بالظهور بمظهر المتحمس لحل سياسي متفاوض عليه، مع اتباع ما يلزم من تكتيكات تصب في مصلحة النظام الحليف في دمشق، أولها العمل على شق صفوف المعارضة، وإفراغ الصفة التمثيلية للائتلاف من محتواها، وإجراء عملية جراحية للنظام، تبقيه حياً.
وتتحدث أوساط إعلامية في غير عاصمة عن تشاور مصري روسي حول الأزمة، وكذلك تشاور مصري مع أطراف عربية، تمهيداً لطرح رؤية سياسية تحظى بموافقة أطراف إقليمية فاعلة، بما يمثل عودة القاهرة لأداء دور قيادي لاحتواء الأزمات، وتفعيل ما كان يسمى عملاً عربياً مشتركاً.
لا يؤمن المبعوث الأممي ميستورا، وهو على شاكلة الموفدين الأمميين السابقين، أنان والأخضر الإبراهيمي، بإمكانية حل سياسي شامل، ينتصب فيه ميزان العدالة، وإلى مقترحه تجميد القتال في ثاني أكبر المدن السورية، فهو يعطي الأولوية لمكافحة داعش، وكأنه لا يمكن الجمع بين مكافحة هذا التنظيم الإرهابي ومكافحة مصادر الإرهاب الأخرى التي تذيق المدنيين السوريين الويلات على مدار الساعة.
وطالبت المعارضة بأن تقترن خطة حلب بالضغط على الميليشيات الأجنبية بمغادرة الأراضي السورية، وأن يصار إلى تسليم المسؤولين عن ارتكاب الجرائم بالأسلحة الكيماوية إلى العدالة، مع ربط هذه الخطة بحل سياسي شامل متدرج وملزم.
والحلول الجزئية الموضعية، مثل الدعوات للحوار بين أطراف الأزمة، تلامس عوارض الأزمة، ولا تأخذ في الاعتبار طبيعة الصراع وخصوصيته، و"ديناميته الفتّاكة، فالمبعوث ميستورا، على سبيل المثال، يحاول استلهام حلولٍ اتبعت في التعامل مع أزمة البوسنة والهرسك، كما ذكر ذلك أحد قادة الجيش الحر، فيما الصراع، في أصله وجذوره، بين نظامٍ استخدم، ولم ينقطع عن استخدام، الأسلحة الثقيلة ضد شعبه، لمجرد مطالبة هذا الشعب بالحرية والكرامة، وبناء نظام تسوده العدالة والقانون. ولا يعبأ هذا النظام بقذف الملايين إلى الدول المجاورة، والتسبب بكوارث انسانية لهؤلاء، وتحميل الآخرين أعباء رعاية الشعب المشرد. وقد حظي هذا النظام، منذ البداية، برعاية كاملة وحثيثة من طهران وموسكو، ما مكّن النظام من ارتكاب المجازر تلو المجازر، إبان الانتفاضة السلمية. ويذكر، في هذا الصدد، أن مجموعات الشبيحة قد نشأت بناء على مقترح إيراني، فيما آلاف البراميل المتفجرة التي تلقى، منذ نحو عام مضى، على الأحياء السكنية هي هدية القيادة الروسية إلى الشعب السوري.
ولم تكن أجواء مؤتمر أصدقاء سورية الذي اختتم أعماله الخميس في جدة بعيدة عن منح الأولوية المطلقة لمكافحة إرهاب داعش، وهو ما كان موضع مؤاخذة أمين عام الائتلاف، نصر الحريري، الذي استغرب أن تتزامن وتترافق طلعات طائرات التحالف المغيرة على داعش مع غارات طائرات النظام التي تلقي براميل متفجرة على المدنيين. فيما رأى مسؤول آخر في الائتلاف، هو منذر أقبيق، أن أصدقاء سورية لم يقصروا بحثهم على مكافحة داعش، بل شملت المداولات توسيع العقوبات على النظام في دمشق، وزيادة المساعدات للشعب السوري المنكوب.
في هذه الغضون، جاء تصريح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أن نجاح الحملة على داعش ربما يتطلب إزاحة الأسد، وقد دعا، بالمناسبة، مستشاريه في الأمن القومي، إلى مراجعة السياسة الأميركية المتبعة حيال سورية. ويفترض أن لا يكون هذا التصريح مفاجئاً، فلطالما تحدثت الإدارة الأميركية عن افتقاد النظام ورأسه الشرعية، غير أن هذه الإدارة اعتمدت، في العامين الماضيين، سياسة مضطربة إزاء سورية، تجمع بين إنكار شرعية النظام، بعد أن خاض حرباً دموية، لا سابق لها في التاريخ ضد شعبه، وبين دعوة المعارضة إلى التفاوض مع النظام، سعياً إلى حل سياسي، وغالباً من دون تحديد أفق هذا الحل، بتشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات والسلطات على جميع مرافق الدولة. والأغرب من هذا دعوة المعارضة لاصطفاء عناصر معتدلة منها تكون جاهزة ومؤهلة للتفاوض مع نظام البراميل والغازات السامة. بهذا، يبدو النظام معتدلاً يبحث عن معتدلين في المعارضة لمفاوضتهم، وفق المعادلات الأميركية! (اعتقلت السلطات، أخيراً، الناشط السياسي في تيار بناء الدولة، لؤي حسن، والتيار ينشط في العاصمة دمشق بموافقة السلطات).. وها هو أوباما الذي سبق أن اعترف بما هو أبعد من ذلك بافتقاد إدارته خطةً، أو سياسة، نحو سورية، ها هو يدعو أركان إدارته إلى مراجعة الموقف الأميركي، ويربط بوضوح بين داعش ورأس النظام.
في التعامل مع هذه المستجدات، لا بد للمعارضة السياسية، ممثلة بالائتلاف، من توحيد أدواتها، مع الحفاظ على التنوع داخلها، والكفّ عن محاولة إنشاء أطر جديدة وبديلة، ومخاطبة الرأي العام، العربي والدولي، بمنطق واحد، هو العمل على إنقاذ الشعب والبلاد من الإرهاب، بمختلف مصادره ومنابته وتلاوينه، والسعي إلى حل سياسي شامل، يحفظ الدولة، ويرسي نظام العدل والمساواة والمساءلة، انطلاقاً من بيان جنيف 1 في يونيو/حزيران 2012، بعيداً عن تدليسات موسكو وطهران حول حل سياسي تجميلي لا مرجعية له، ولا يتماشى مع التضحيات الهائلة التي بذلها السوريون.