سورية.. من الدولة إلى مملكة النهر
يتحدث السوريون عن سورية ويتغنون بها، لكنك لو سألت سورياً عن حدود وطنه ودولته التي يعيش بها، لفاجأتك الإجابات، ولسمعت حديثاً متواصلاً عن سورية، بحدودها التي تصل إلى تخوم الحجاز جنوباً والمتوسط غرباً وجبال طوروس شمالاً، بينما الشرق مدى مفتوح، لا يمكن لسوري تحديده بدقة. وقد تسمع حديثاً عن المحيط والخليج وعاصمتهما، وعن دمشق عاصمة الدولة الأموية.
كانت سورية أشبه بفضاء حضاري وإنساني وثقافي، أكثر منها كياناً محدداً يؤطر الهوية الوطنية. لقد أسس إعلان الاستقلال الصادر في 8 مارس/آذار عام 1920 للمملكة السورية العربية، ووضع حدوداً لها تضم الأردن وفلسطين ولبنان وسورية الحالية، وعلى الرغم من انتهاء المملكة خلال بضعة أشهر، بعد دخول الجيش الفرنسي إلى سورية، إلا أن هذا الإعلان بقي في اللاشعور الجمعي السوري، ما ساهم في انفصال الهوية السورية عن واقع الكيان السياسي.
زرعت مناهج التعليم التي فرضها نظام البعث، منذ منتصف القرن الماضي، فكرة أساسية لدى عموم السوريين، أن وطنهم ودولتهم ثمرة مؤامرة استعمارية بريطانية فرنسية مشتركة، رسمها شخصان، سايكس وبيكو. وقد أفرزت هذه المناهج فكرة رفض الكيان السوري بحدوده الحالية، وجعلت السوري يعيش شعوراً هوياتياً، غير مطابق للكيان الذي يعيش فيه، إذ كان قلق الهوية والكيان واضحاً في تصرفات السوريين وفي خطابهم، حتى النخب السياسية المفكرة كانت تتحدث عن كل شيء، إلا الهوية الوطنية السورية، بل حمل خطابها عن بناء دولة نوعاً من التبرير، وبأن هذه الدولة مؤقتة، وهي الخطوة الأولى للحديث عن بناء الأمة العربية، وهذا كان موقف التيار القومي، بكل تفاصيله البعثية والناصرية وسواها.
وكان التيار الإسلامي يتحدث عن أخوة الإيمان والإسلام، وعن دولة حالة إسلامية عائمة لا حدود لها، مواطنوها فقط هم المؤمنون. ولذلك، يمكن تمييز الاتجاهات الثلاثة التي سادت في الوسط السياسي السوري، القومي واليساري والإسلامي، وجميعها تحدثت عن هوياتٍ مفترضة ما فوق تاريخية، ثابتة منذ الأزل، وهي عابرة للكيان، ولا تتطابق موضوعياً معه، وأنتجت هذه الحالة غياباً كاملاً لمفهوم المواطن المنتمي إلى كيان سياسي محدد، يمارس حقوقه ضمن هذه الحدود، وسمحت لنظام "البعث" مثلاً بأن يغيب في الدساتير التي أنتجها مصطلح الشعب السوري تغييباً كاملاً، فدستور حافظ الأسد لعام 1973، ومن بعده دستور بشار الأسد لعام 2012، لا يستخدمان تعبير الشعب السوري، بل يستخدمان مصطلحاً رديفاً هو "الشعب العربي في سورية". وعند حديثه عن المجتمع، يستخدم مصطلح "المجتمع في القطر العربي السوري" (المادتان 1 و134 من دستور 1973)، وهما المادتان اللتان ذكرتا في دستور عام 2012 في المادة الأولى التي تقول "الشعب في سورية جزء من الأمة العربية"، إذ جاء مصطلح الشعب، من دون إضافة كلمة السوري، بل هو بالتعريف الشعب الذي يقطن سورية، وليس شعباً سورياً.
تتناول هذه المقدمة أحد عوامل عدم تشكل الهوية الوطنية، لكنها تسمح لنا بفهم تعقيداتٍ كثيرة تعتري المشهد السوري اليوم. كانت الثورة السورية الفرصة الأولى التي تتاح فيها لهذا الشعب بلورة هوية وطنية متعينة في الواقع، ففي البداية، اكتشف الشعب السوري ذاته، واكتشف هويته الوطنية، ولم يكن شعار مظاهرة الحريقة في فبراير/شباط 2011 عبثاً "الشعب السوري ما بينذل"، ثم تدحرجت الشعارات من مكان إلى آخر، وهي تزداد عمقاً في تأكيد أن الشعب السوري واحد. كانت الثورة مناسبة ليتعرف السوري على نفسه أولاً، وليكتشف أبناء سورية الآخرين، محطماً الصور النمطية المخزنة عنهم. كان هذا في العام الأول، ثم تغير المشهد كلياً، ففي العام الثاني، تمت إعاقة عملية تشكل هوية وطنية سورية، بشكل رئيس، بسبب وحشية النظام وسياساته التي تنفي وجود الشعب، وبعده الحقوقي، وإصراره على الحديث عن طوائف مهددة، إلى جانب دور الخطاب البائس والعقيم للمعارضة.
في خطاب القسم، حدد بشار الأسد أن في سورية نوعين من البشر، وطنيين شرفاء هم الذين معه، وخونة عملاء نظفت البلاد نفسها منهم. واستخدم مصطلح "العيش المشترك" بين السوريين، استعاره من السياسة اللبنانية، وهو مصطلح غريب عن القاموس السياسي السوري. كان خطاب القسم واضحاً في دلالاته، عندما حدد أن هناك أزمة أخلاقية وثقافية بين جزأي الشعب المعارض والموالي. لم يعد الصراع من وجهة نظره خلافاً سياسياً، بل صار يحمل بعداً حضارياً، ما يمنع من الاستمرار في وطن واحد. كان الخطاب تأسيساً لـ"سورية المفيدة" التي تحدثت عنها مراكز أبحاث غربية منذ شهر فبراير/شباط الماضي، والتي تضم حوضي العاصي وبردى، مقابل سورية الكبيرة التي تترامى على ضفاف حوض الفرات. كان خطاب القسم تماهياً كاملاً مع هذه الطروحات الجديدة في السياسة الدولية، ليحكم بشار سورية المفيدة، ولتترك سورية الكبيرة للفوضى.
كان خطاب القسم لاوطنياً بامتياز، من حيث نفيه فكرة الوطنية السورية. وفي الطرف الآخر، ساهمت المعارضة في هذا الأمر بالتأكيد على نفي الوطنية السورية، وتدمير رموزها الجامعة. في اجتماع الهيئة العامة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في يوليو/تموز الماضي، اعترض عضو على قراءة النشيد الوطني في افتتاح الاجتماع، وعلى الرغم من أن النظام الأساسي للائتلاف ينص بأن تبدأ اجتماعات الائتلاف بالنشيد الوطني، إلا أن اعتراض هذا العضو وتأييد بعضهم له أدى إلى افتتاح الاجتماع من دون قراءة النشيد. وتقول هذه الرمزية الأخيرة إننا شعب تدمره، أيضاً، المعارضة السياسية، ووصل الأمر إلى حد أن جبهة النصرة اتهمت عناصر أحرار الشام والجبهة الإسلامية بالكفر، لأنهم استخدموا مصطلح الوطنية السورية في ميثاق العمل الثوري الذي أصدرته الجبهة الإسلامية في أيار/مايو الماضي، والسجال الذي دار بين الطرفين يوضح، بشكل جلي، رفض فكرة وجود وطنية سورية عند أغلبية الفصائل الإسلامية المقاتلة.
وهذا، بالضبط، ما سمح لتنظيم الدولة الإسلامية بتعيين ولاة وأمراء على المناطق السورية من غير السوريين. وهذا مشهد لم نر مثيلاً له في أفغانستان التي رفضت تعيين أي أمير من المجاهدين العرب على مناطقها، في غضون الجهاد الأفغاني. ويدل قبول سوريين بهؤلاء دلالةً واضحة على تشظي مفهوم الوطنية السورية، ما سمح لتنظيم الدولة الإسلامية بالتمدد شعبياً وبمبايعة بعضهم له، وهو، أيضاً، ما سمح بقبول وجود مقاتلين لبنانيين وعراقيين وإيرانيين يقاتلون في صفوف النظام، ويقيمون حواجز لهم في بعض شوارع دمشق.
باتت سورية اليوم مقسمة إلى مملكتين، مملكة نهر الفرات التي تحكمها داعش، ومملكة العاصي وبردى التي يحكمها بشار، والحد الفاصل بينهما خط (الرقة -السلمية –تدمر- طريق دمشق دير الزور) الذي باتت ترتسم معالمه تدريجًا، وبقية المناطق تفصيل على هامش هاتين المملكتين، وهي مهددة بالسقوط بين يدي إحداهما.
إنها اللعنة الآرامية الجديدة، ممالك الآراميين التي تقاتلت ألفي عام، ولم تتوحد إلا في ظل محتل أجنبي، ولم تستطع عبر تاريخها الطويل بناء دولة مركزيةٍ، تعبر عن حضارة الآراميين، ونحن، اليوم، نشهد هذا التشظي القاتل والدامي. والجميع مطالبون، اليوم، مفكرين وسياسيين وأحزاباً وجمعيات مدنية، بالعمل من أجل إعادة إنتاج الذات السورية وبناء الوطنية السورية الجامعة، فهذه المهمة لا تقل أهمية عن التخلص من نظام الاستبداد، وربما كانت الشرط الأولي للتخلص منه.