مغلقٌ شباك تذاكر سينما جنين معظم الوقت، وبابها كذلك، ولا منشور على جدرانها يدل على عرض فيلم بعد ساعة أو يوم أو شهر. لكن مهلاً، ثمة منشور واحد ملصق حول عمودها الدائري، لا يظهر منه شيء، بعد أن غطته صورة شهيد.
سينما جنين التي تأسست قبل 56 عاماً، افتُتحت من جديد عام 2010، بعد إغلاق استمر لأكثر من 23 عاماً، وتحديداً مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. لكن انطلاقتها الجديدة قبل أربع سنوات، حولتها في نظر المجتمع الفلسطيني إلى صالة فساد وتطبيع.
"أنا أول من علم بالأمر.. أخبرني بذلك أودي ألوني، فأبلغت زملائي الفلسطينيين، وبدأنا التحرك"، قال طارق سويطات الذي كان مسؤولاً إعلامياً لسينما جنين، في الفترة الممتدة بين عامي 2009 و2011. وأودي ألوني هو مخرج سينمائي يهودي يشارك في الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل. أما المعلومة التي سرّبها ألوني لطارق فهي: "رئيس بلدية حيفا سيحضر حفل افتتاح السينما".
والمعنيان بحضوره كانا: الألماني ماركوس بيتر، صاحب فكرة إعادة تشغيل سينما جنين، والفلسطيني فخري حمد، مدير عام السينما في حينه. بيد أن نشطاء من جنين لم ينجحوا فقط بإفشال تلك الدعوة، إنما استيقظوا في صباح قريب وقد غادرت إدارة السينما المُطبِّعة إلى ألمانيا. حصل ذلك كله قبل ثلاث سنوات، وحتى اليوم يكافح كادر السينما الجديد لسحب رصاصات التطبيع من ذاكرة الناس في جنين، وذاكرة السينما على حد سواء.
يقول لميع الأسير، مدير عام السينما الحالي: "اليوم لا أحد يتدخل في نهجنا الوطني الجديد. الداعمون الألمان يدفعون رواتب ثمانية موظفين، ولا علاقة لهم بشيء آخر". ويؤكد نشطاء أن ألمانيا التي تمول مشاريع عدة في الضفة الغربية، هي من أكثر الدول الأوروبية التي تدفع باتجاه التطبيع مع المحتل. وينبع ذلك من شعور الألمان بالذنب تجاه اليهود. فمعهد غوته الألماني - وهو أحد الرعاة الرئيسيين لمشروع سينما جنين- يفرض شروطاً قبل تقديم الدعم.
من جهتها، تقول ميساء الأسير، مديرة العلاقات العامة في السينما: "نقول للإيطاليين مثلاً، عندما يقدمون لنا أي مساعدة، إننا لا نقبل بأي دعم بشرط التطبيع، ويوافقون على ذلك.. لا يفرض جميع الأوروبيين شروطاً".
لؤي طافش الذي صار مديراً فنياً للسينما في كادرها الجديد، بعد أن كان من أشد منتقدي إدارتها السابقة، يتحدث عن خطر المشروع على الجمهور، في حال استمر في نهجه التطبيعي الذي سرعان ما تم اكتشافه وإفشاله: "هناك شريانان للمعرفة: التلقين والتجربة، وخطورة السينما تكمن في جمعها بين الطريقتين. فعندما تُعتم صالة العرض، أنت كمشاهد تكون جاهزاً للمعرفة أو الغزو". ويتابع طافش بحماسة كبيرة ملوحاً بيديه: "دور أي سينما في ظل الاحتلال ليس الحديث عن البندورة والخيار، وإنما إعادة الفلسطينيين إلى ذاكرتهم الوطنية".
كانت سينما جنين في السنة الأولى من انطلاقها مثالاً واضحاً على شراء الداعمين حرية الفلسطينيين بالمال. فأمام رأي "الدافع"، لا رأي للمدفوع لهم. تؤكد روند عرقاوي، وهي صاحبة تجربة في التنسيق السينمائي والمسرحي: "في البداية يدخلون علينا من باب الوطنية وليس فقط الإنسانية، ومع مرور الوقت، تكتشف الألغام في المسارات المرسومة من قبلهم".
لكن لا أحد يمنع الفلسطينيين من شراء أنفسهم عندما يريدون ذلك. فهذه السينما كانت الوحيدة في جنين التي أحيت ذكرى يوم الأرض لهذا العام في المنطقة، واحتفلت حتى بعيد العمال وبذكرى النكبة، وتحضّر حالياً لذكرى النكسة، وتعرض أفلاماً فلسطينية وطنية؛ ومع ذلك لم يمت العاملون فيها من الجوع.
نادراً ما يقدم الداعمون، والأميركيون خاصة، لقمة خالية من السم إلى الفلسطينيين. مؤسسات طويلة عريضة في الضفة الغربية تمولها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ولا يُسمح لشاب اعتقلته إسرائيل العمل بها، تحت بند توقع عليه هذه المؤسسات مسبقاً مع الممولين يسمى "وثيقة نبذ الإرهاب". وفي هذا السياق، معظم أشكال مقاومة للاحتلال يحسبها الأميركيون إرهاباً.