كلما ضاقت السبل بصحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية، عمدت إلى إثارة موضوع إشكالي للفت النظر إليها، حتى ولو كانت هذه الزوبعة على حساب ميثاق الشرف الصحافي، أو الأعراف والقوانين الدولية.
في آخر زوابعها، تنشر "شارلي إيبدو" صورة للطفل السوري الغريق آلان، مدعية أن هذا الطفل، ما كان ليتورّع عن الانضمام لقطيع المتحرّشين في مدينة كولن، لو قيّض له أن يكبر!
في كاريكاتيرها هذا، تتجاوز "شارلي إيبدو" كل المواثيق والأعراف الدولية، وحقوق الإنسان، وهو ما يتنافى مع أخلاقيات الصحافة، ففي الكاريكاتير نبرة عنصرية واضحة المعالم، تدعو إلى ترك السوريين يغرقون، بدلاً من احتضانهم، كيلا يسيئوا إلى المجتمعات الأوروبية.
مغالطة أخرى ارتكبتها الصحيفة، وهي أنها أطلقت حكماً أخلاقياً، قبل التثبت من هوية المتحرّشين، خاصة وأن السلطات الألمانية تحيط التحقيقات بسرية تامة.
بعض التسريبات، التي لم يتم تأكيدها، تفيد بأن المتحرشين الأربعة، الذين قيل أنهم سوريون، تبين أنهم من جنسيات أخرى، وقد انتحلوا الجنسية السورية، مما يقوّض مقولة "شارلي إيبدو" برمّتها.
وسرعان ما ردّ رسام الكاريكاتير السوري، هاني عباس، على "شارلي إيبدو"، ورسم صورة للطفل الغريق، وقد غرزت ريشة القلم في ظهره، كناية عن التشويه والإساءة التي مارستها الصحيفة، لا على الشعب السوري وحده، بل على أخلاقيات مهنة الصحافة، التي ينبغي أن تكون الموضوعية إحدى أبرز سماتها، فكيف يستوي الأمر مع صحيفة تتصدر المشهد النقدي في واحدة من دول الاتحاد الأوروبي، التي تتصدّر حماية حقوق الإنسان!
في المقابل، يبدو أن القائمين على الصحيفة أدركوا حجم الانتهاك الذي ارتكبوه لمواثيق حقوق الإنسان، أو أن اليمين المتطرّف في أوروبا اقتنص الفرصة في الترويج للرواية التي راقته، فاختار أن يعكس الصورة، التي حاولت الصحيفة أن تقدّمها؛ أيّاً تكن القصة، ولكنّ الثابت في الموضوع أن توضيحات كثيرة رشحت، تفيد بأن صحيفة "شارلي إيبدو" إنما أرادت أن تنتقد التيارات اليمينية الراديكالية في أوروبا، والتي تحاول تجييش الرأي العام ضد اللاجئين، وعلى نحو خاص السوريين منهم، وأن ما طرحته في رسم الكاريكاتير، إنما هو رؤية اليمين المتطرف الذي يتعامى عن عذابات اللاجئين، ولا يستنكر غرقهم في مراكب الموت فقط، بل ويروّج لشائعات من شانها أن تؤلّب الرأي العام عليهم.
وهنا يبرز سؤال: لماذا اختارت "شارلي إيبدو" صورة الطفل السوري، عيلان، والتي أحدثت ضجة إعلامية كبيرة، لانتقاد اليمين الأوروبي إن صحت الرواية؟
ببساطة، الصحيفة التي دأبت على النيل من الرموز الدينية في كل الديانات السماوية، لم تكن غايتها مناصرة القضية السورية، أو الوقوف ضدّها، وإلا لكانت وجدت في خطابات رأس النظام السوري، بشار الأسد، مادة دسمة للكاريكاتير، أكثر بكثير من تلك الموجودة في مأساة آلان. غير أنّ ما يهم الصحيفة هو الترويج لما تنشره، وما سيدخل في صندوقها من واردات، حتى لو كان على حساب الشعور الجمعي للشعوب!
لم تكن صحيفة "شارلي إيبدو" معنية بموقف القارئ من رسومها، ولا هي مكترثة بتأويل هذه الرسوم، ولكنها طريقتها في الترويج الإعلامي، تماماً كما يلجأ الكثير من الفنانين إلى بث الشائعات كلما أحسوا بأن العدسات قد ابتعدت عنهم قليلاً؛ كلّ ما أراده القائمون على الصحيفة هو زيادة الواردات، ولا بأس من محاباة بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، وبالذات تلك المتواجدة في فرنسا، وإبداء نوع من التضامن مع رؤيتها للحدّ من تدفق اللاجئين إلى أوروبا.
يبقى السؤال الأبرز هنا: ما هي الرسالة الحقيقية للإعلام؟
بعض وسائل الإعلام السورية، البديلة منها على وجه التحديد، وغالبية العاملين في حقل الإعلام استنكروا الحادث، الذي تعرضت له الصحيفة في العام الماضي، والذي قتل فيه 12 عاملاً في المجلة، ليس حباً بسياسات المجلة، ولا انحيازاً لانتهاكها الدائم للرموز الدينية، وإنما انحيازاً لحرية الكلمة، في الوقت الذي أبت فيه الصحيفة نفسها إلا أن تغرق هذه الكلمة في بحر العنصرية، الذي أغرقت فيه الطفل عيلان!
(سورية)