لا تختلف الموسيقى الفرنسية في تمظهراتها الحالية عن الموسيقى العربية المعاصرة، وخاصة أن سمات الترهل والترفيه والاستهلاك طافحة بشكل كبير على القطع الموسيقية المقدمة إلى الجماهير الهلامية. وهي تتأسس في مجملها على الإيقاع المتكرر والمزج بين عناصر إيقاعية مختلفة ومتنوعة، تتقاطع فيها أنماط الموسيقى الشعبية بالأنغام الشرقية مع توليفات غربية وباستعمال آلات موسيقية قديمة. لكن توظيفها بطرق معاصرة من خلال مزجها بأدوات موسيقية إلكترونية، يجعلها مستساغة ومقبولة من قبل المتلقي الذي لم يعد يهمَّه البناء الفني والجمالي للنص الموسيقي وتفاصيله الشعرية، بقدر ما أصبح يراهن على الإيقاع السريع المندفع الذي تغذيه طبيعة الحياة المعاصرة وسرعتها وابتذالها والجري وراء الاستسهال والاستهلاك المفرط لهذه المقاطع الموسيقية الجديدة وفيديو كليباتها، بحيث إن المرء يسمعها لمرة واحدة، ثم تصبح لديه ضرباً من الابتذال. مع العلم أن القديم يحضر بقوة، فهو ما تؤسس عليه الموسيقى المعاصرة، ولا يمكن التملص من سلطته وجمالياته، سواء عن طريق الآلات أو المواويل، وهو ما نعاينه اليوم داخل فرنسا، إذ برزت أسماء عديدة كرست نفسها لتدوير القديم ولا شيء آخر. فالهاجس الإبداعي والفني غائب أو مغيّب بسبب طبيعة حياة الإنسان اليوم وحرصه على الترفيه بالدرجة الأولى، دون أن ننسى بعض الأسماء التي بلغت شهرتها العالم، بسبب الطفرة التكنولوجية التي جعلت أعمالها أسهل. إذْ تقوم بالدرجة الأولى على الآلات الإلكترونية، مثل: إنديلا وميتر جيمس وكينجي جيراك وغيرهم.
لكن السؤال المطروح هو: هل ينطبق الأمر مثلا، على المغني الفرنسي/ الأرميني شارل أزنافور (1924-2018)، الذي جرى تكريمه يوم 6 مارس/ آذار المنصرم، ضمن شهر الفرنكوفونية في بيروت، وذلك من قبل المعهد الثقافي الفرنسي والوكالة الجامعية الفرنكوفونية في الشرق الأوسط؟
الحقيقة أن اتخاذ المغني شارل أزنافور، كحدث فني رئيسي للمهرجان في نسخته الجديدة، هو أمرٌ مُبرّر، وذلك لقيمة الرجل ومكانته، بوصفه عميداً للأغنية في فرنسا، ومن العلامات البارزة في تاريخ الموسيقى الغربية. إذ لم يكن يعلم أزنافور وهو الصبي الذي ولد بباريس من عائلة مهاجرة ذات أصول أرمينية لاجئة (على أثر الخرب التركية الأرمينية عقب توقيع معاهدة سيفر سنة 1920 وما أسفرت عنه من نتائج سياسية)، وهو يحضر مع أبيه للعروض الموسيقية الساحرة التي شهدتها باريس في عصرها الذهبي، أنه سيصبح بعد سنوات، أحد أساطيرها ورموزها الكبيرة المشرفة لدى المجتمع والدولة على حد سواء.
فالتشرد داخل أحياء باريس الفقيرة والمنفى المضمر الذي تنضح به أغانيه بسبب هجرة عائلته، جعلاه يبدأ بتجريب بعض الأغاني وهو في سن العشرين داخل بعض الملاهي والحانات الليلية، محاولاً إثبات نفسه. لكنه تجاوز بسرعة مرحلة التعلم والإثبات إلى مرحلة المجد والتأليف لآلاف الأغاني والمشاركة في عدد كبير من الأفلام السينمائية لكبار المخرجين، أمثال بيير موكي وفرانسوا تروفو، فضلاً عن إحياء العديد من الحفلات الموسيقية داخل مدن عديدة من العالم مع رفيقة دربه المغنية إديث بياف، التي استطاعت التأثير في حياته الغنائية، على حد تعبيره، من خلال حثها له على صعود الخشبة والغناء بنفسه، ليطرقا باب الشهرة والعالمية.
اقــرأ أيضاً
ثمة ظواهر فنية كثيرة في العالم، تنبث في الهوامش، تشبه نبتة الظل، والتي تحاول تنانين المركز ابتلاعها، لأنها ترفض أن تستعير حنجرتها أو أن تصبح لسان حالها السياسي والاجتماعي، فتظل متقوقعة بوعي داخل عرش الهامش، حتى تفجر مكبوتها الجمالي إلى العالم، كما هو الأمر في شخصية شارل أزنافور وسيرته الجريحة التي تستحق أكثر من عمل سينمائي يوثق المسارات الأليمة التي عانى منها، والسلطات القمعية والرمزية التي تصدت له في بداية حياته المهنية، بوصفه مهاجراً أرمينيّاً دخيلاً على الغناء الفرنسي وأنه "قصير القامة، محدود الصوت".
لكن مع ذلك، بدا أزنافور للرأي العام الفرنسي، منذ الخمسينيات، بعدما تحرر شيئاً فشيئاً من سلطة إديث بياف، كأنه يمتلك قوة سيزيفية لا تُقهر، متمثلة في صوته الجبلي المتقطع الحنون الذي اخترق مسامع وقلوب المجتمع الفرنسي على اختلاف طبقاته الاجتماعية، حتى صارت أغانيه مستحبة ومألوفة. بل الأكثر من ذلك، يمكننا الحديث عن مدى تأثيره في الذوق الموسيقي الفرنسي الذي يتجلى في تجارب غنائية جاءت بعده.
قد يبدو غريباً لعشاق أزنافور مدى تباين موسيقاه وأسلوبه مع نمط عيشه في الحياة، والمكانة التي أصبح يحظى بها لدى كل رؤساء العالم. إذْ إنَّ الألم والمعاناة والبوهيمية والفقد والحب التي تعبر عنها أغانيه، قد لا تتماشى مع أسلوبه في الحياة. لكن الحقيقة أن أزنافور رغم ما وصل إليه من شهرة كونية، بقي في قرارة نفسه يشعر بالضعف، وبأن جرح عائلته لم يندمل بعد، وقد عبر عن ذلك في كثير من المرات. والمتأمل في أغانيه الأخيرة ومواقفه السياسية تجاه بلده الأصل، يدرك الجرح الخفي الذي ظل يحفر مجراه في جسده تجاه أرمينيا. الأمر الذي قاده إلى الانخراط في حملات توعوية ومساعدات خيرية كثيرة لبلده، حتى حصل سنة 2008 على أعلى رتبة شرف يمنحها البلد، وهو وسام بطل أرمينيا الوطني، وبعدها بسنوات قليلة، حصل على منصب سفير أرمينيا بسويسرا.
الحقيقة أن اتخاذ المغني شارل أزنافور، كحدث فني رئيسي للمهرجان في نسخته الجديدة، هو أمرٌ مُبرّر، وذلك لقيمة الرجل ومكانته، بوصفه عميداً للأغنية في فرنسا، ومن العلامات البارزة في تاريخ الموسيقى الغربية. إذ لم يكن يعلم أزنافور وهو الصبي الذي ولد بباريس من عائلة مهاجرة ذات أصول أرمينية لاجئة (على أثر الخرب التركية الأرمينية عقب توقيع معاهدة سيفر سنة 1920 وما أسفرت عنه من نتائج سياسية)، وهو يحضر مع أبيه للعروض الموسيقية الساحرة التي شهدتها باريس في عصرها الذهبي، أنه سيصبح بعد سنوات، أحد أساطيرها ورموزها الكبيرة المشرفة لدى المجتمع والدولة على حد سواء.
فالتشرد داخل أحياء باريس الفقيرة والمنفى المضمر الذي تنضح به أغانيه بسبب هجرة عائلته، جعلاه يبدأ بتجريب بعض الأغاني وهو في سن العشرين داخل بعض الملاهي والحانات الليلية، محاولاً إثبات نفسه. لكنه تجاوز بسرعة مرحلة التعلم والإثبات إلى مرحلة المجد والتأليف لآلاف الأغاني والمشاركة في عدد كبير من الأفلام السينمائية لكبار المخرجين، أمثال بيير موكي وفرانسوا تروفو، فضلاً عن إحياء العديد من الحفلات الموسيقية داخل مدن عديدة من العالم مع رفيقة دربه المغنية إديث بياف، التي استطاعت التأثير في حياته الغنائية، على حد تعبيره، من خلال حثها له على صعود الخشبة والغناء بنفسه، ليطرقا باب الشهرة والعالمية.
ثمة ظواهر فنية كثيرة في العالم، تنبث في الهوامش، تشبه نبتة الظل، والتي تحاول تنانين المركز ابتلاعها، لأنها ترفض أن تستعير حنجرتها أو أن تصبح لسان حالها السياسي والاجتماعي، فتظل متقوقعة بوعي داخل عرش الهامش، حتى تفجر مكبوتها الجمالي إلى العالم، كما هو الأمر في شخصية شارل أزنافور وسيرته الجريحة التي تستحق أكثر من عمل سينمائي يوثق المسارات الأليمة التي عانى منها، والسلطات القمعية والرمزية التي تصدت له في بداية حياته المهنية، بوصفه مهاجراً أرمينيّاً دخيلاً على الغناء الفرنسي وأنه "قصير القامة، محدود الصوت".
لكن مع ذلك، بدا أزنافور للرأي العام الفرنسي، منذ الخمسينيات، بعدما تحرر شيئاً فشيئاً من سلطة إديث بياف، كأنه يمتلك قوة سيزيفية لا تُقهر، متمثلة في صوته الجبلي المتقطع الحنون الذي اخترق مسامع وقلوب المجتمع الفرنسي على اختلاف طبقاته الاجتماعية، حتى صارت أغانيه مستحبة ومألوفة. بل الأكثر من ذلك، يمكننا الحديث عن مدى تأثيره في الذوق الموسيقي الفرنسي الذي يتجلى في تجارب غنائية جاءت بعده.
قد يبدو غريباً لعشاق أزنافور مدى تباين موسيقاه وأسلوبه مع نمط عيشه في الحياة، والمكانة التي أصبح يحظى بها لدى كل رؤساء العالم. إذْ إنَّ الألم والمعاناة والبوهيمية والفقد والحب التي تعبر عنها أغانيه، قد لا تتماشى مع أسلوبه في الحياة. لكن الحقيقة أن أزنافور رغم ما وصل إليه من شهرة كونية، بقي في قرارة نفسه يشعر بالضعف، وبأن جرح عائلته لم يندمل بعد، وقد عبر عن ذلك في كثير من المرات. والمتأمل في أغانيه الأخيرة ومواقفه السياسية تجاه بلده الأصل، يدرك الجرح الخفي الذي ظل يحفر مجراه في جسده تجاه أرمينيا. الأمر الذي قاده إلى الانخراط في حملات توعوية ومساعدات خيرية كثيرة لبلده، حتى حصل سنة 2008 على أعلى رتبة شرف يمنحها البلد، وهو وسام بطل أرمينيا الوطني، وبعدها بسنوات قليلة، حصل على منصب سفير أرمينيا بسويسرا.