نجح محمد خلال العشرة أعوام الماضية في رسم طريقه المهني، تنقّل بين صحيفة قومية ومواقع إخبارية ووكالة أجنبية، حصل على عضوية نقابة الصحافيين، تمّ الاستغناء عنه الشهر الماضي بعد قرار الحجب والاستغناء عن نسبة من الصحافيين داخل المؤسّسات.
لجأ محمد بعد الأضرار التي لحقت بعمله بعد الحجب لنقابة الصحافيين، والتي ردّت عليه بدورها بأنه من شؤون دولة "تحارب الإرهاب"، وهذه المواقع مموّلة من تنظيمات إرهابية، وأكدّت موقفها بإصدار بيان تؤيّد فيه قرار الحجب".
قهوجي
يقول محمد: "بعد أن أُغلقت أبواب الرزق أمامي، اضطررت لإخراج ابنتي من روضتها، وفكّرت في وظيفة أخرى، بدون مواصفات غير حصولي على رزق حلال منها، وتماشيًا مع طبيعة حال الشعب المصري الذي ينفق على الطعام والشراب. أخذت خطواتي في تأسيس مقهى، وقدّمت طلب قرض من أحد البنوك لتأسيس المشروع".
يستطرد المتحدّث: "نعم .. سأعمل بيدي داخل المقهى وسأترك مهنة الصحافة، ماذا قدمت لي المهنة غير قلّة الحيلة، وضيق اليد؟"، مؤكدًا أن له أصدقاء صحافيين قاموا بشراء "توك توك" والاشتغال به وترك المهنة أو العمل في وظائف إضافية، بسبب الوضع الاقتصادي لمصر، بالإضافة لوضع الصحافيين. وأضاف أن بعض المواقع استغلّت الأزمة لصالحها، ولرغبتها المُسبقة بالاستغناء عن صحافيين لتقليل النفقات.
ويرى محمد أن العمل الإعلامي الحرّ في مصر يسير نحو الانهيار، ولا مكان للصحافيين المعارضين، بسبب التضييق الأمني، وقلّة الفرص الجيّدة، وفرص التعامل مع مؤسّسات خارج مصر قليلة، وتتعرّض لأزمات أمنية، وتستغلّ المؤسّسات حاجة الصحافيين للوظيفة، فلا تُراعي حقوق العمل، بالإضافة لدخول زملاء غير متخصّصين للمهنة يلجأ بعضهم للفبركة والكذب. الآن لا يستطيع الصحافي عمل تحقيق ميداني متميّز بسبب التضييقات الأمنية على الصحافيين، فالصحافي يعتمد على البيانات أو حوار بالتليفون لأن المصادر نفسها تخاف من المساءلة الأمنية.
بعد التواصل مع عدد من الزملاء الصحافيين في مصر، تبّين أن حالة محمد ليست الوحيدة، بل هناك كثر أمثاله؛ لكن لم يسعفنا هذا التقرير لنشر كل القصص، فالمهن التي لجأ إليها الصحافيون إضافة إلى عملهم في إنشاء مشاريع أخرى بين بقالة و"كافيه" وتجارة ملابس على الإنترنت، ومدرّس خصوصي بالمنزل.
حجبت السلطات المصرية عددًا من المواقع الإلكترونية المحليّة والأجنبية في 24 من أيار/ مايو الماضي ليصل عددها إلى 62 موقعًا، من دون إعلان أسباب الحجب أو الجهة المسؤولة عن هذا القرار، ومن بينها مجموعة من المواقع التي تقدم خدمة VPN، وهو برنامج يسمح بالدخول على المواقع المحجوبة، ومن بين القائمة المحجوبة مواقع إعلامية قطرية مثل "الجزيرة" ومواقع تابعة لجماعة الإخوان المسلمين فضلًا عن بعض المواقع المصرية مثل "مدى مصر" و"مصر العربية" "إضاءات". ووفقًا للتصنيف الدولي لحرّية الصحافة الذي نشرته منظمة "مراسلون بلا حدود" عام 2017، تأتي مصر في المرتبة 161 على القائمة التي تضمّ 180 دولة.
إضاءات
الضرر المهني والمادي لم يقع على الصحافيين العاملين في المواقع المحجوبة وحدهم، فالأزمة أثرت على الإدارات ووضعتها في موقع الضحيّة والجاني معًا. مهند شادي، مدير تحرير موقع "إضاءات"، تحدّث إلى "جيل" عن الضرر الذي لحق بهم بعد الحجب، قائلًا: "حجب موقع إضاءات أدى لانخفاض الزيارات على الموقع، من سكّان الدول الحاجبة. وذلك له تأثير ممتدّ بشكل أبعد قليلًا من الحجب، لما يترسب داخل نفسية القارئ أن هذا الموقع تم حجبه، ولكي نتغلّب على ذلك يتطلب هذا مجهودًا بعد رفع الحجب، هو ما نسعى للقيام به حاليًا، بعدما نجحنا في تجاوز الحجب الحالي".
بالإضافة إلى ذلك، يضفي القرار المواقع المحجوبة بطابع المكان المغضوب عليه من قبل السلطة، وذلك يخلق حالة من الخوف لدى المتعاملين مع المؤسّسة، سواءً كعملاء أو موظفين. خاصّة مع توجّهات السلطة الحالية في مصر، وأيضًا بقية الدول في التعامل مع المعارضة، بالرغم من أن هذه المؤسّسات ليست معارضة، ولكنها موضوعية ومهنية، لكن الأنظمة للأسف لا تعتدّ سوى بالجوقة التي تسبّح بحمدها فقط.
وأشار شادي إلى أن إدارة "إضاءات" لم تلجأ إلى فصل الصحافيين العاملين أو خفض رواتبهم، مما وضع علينا عبئاً أكبر في كيفية توفير تكلفة تشغيل المؤسّسة.
استغلال المؤسّسات
وتابع: أما بالنسبة للمؤسّسات والمواقع التي لجأت إلى هذا الحل، فجزئيًا الموضوع يتعلق بحالة حقيقية من الأزمة المالية التي تواجه المؤسّسات، فهناك حالات نتحدث عنها بدون حرج على مسؤولية الإدارة والملاك عن قرارات الفصل وتخفيض الرواتب وما شابه؛ لكن الوضع الحالي بحاجة لدراسة موضوعية لكل مؤسّسة وموقع، بمعنى مدى تصرّف المؤسسة في إطار تخفيض النفقات، في ظل التأكيد على الحفاظ على حقوق العاملين من صحافيين وكتاب وغيرهم، وذلك يجب أن يكون في ظل نقاش حقيقي وموسّع بين الإدارة والعاملين، وذلك الطريق الوحيد للخروج من الأزمة بأفضل النتائج ورضا جميع الأطراف، وذلك لا ينفي أن بعض المؤسسّات استغلت الوضع الحالي، فالأمر يتعلق بكل حالة على حدة".
وأكد المتحدّث أن المؤسّسات العربية تعاني من أزمة إدارة حتى مع توفر الموارد البشرية والمادية المتميّزة، وأمر قراراتها التي تصب في مصلحة الكاتب أمر متفاوت بين المؤسّسات، فمن ثم مدى استفادة الكاتب من المؤسّسة تعتمد على مدى جودة المنظومة الإدارية. أما الجزء الخاص بالحسابات المالية، ففيها تفاوت كبير للأسف، خاصّة الفارق بين المؤسّسات داخل وخارج مصر، وجزء أساسي من الأسباب هو سعر الدولار الذي يخلق تفاوتًا ضخماً في الدخول والمقابلات المادية، وهي أزمة للطرفين، الكاتب والمؤسّسة.
شادي يرى أن ترك الصحافيين للمهنة، مضرّ بها، بلا شك، "ورأينا أثره على المستوى الخاص بالفضائيات والإعلام المرئي، بعد انخفاض ضخم في المشاهدة والمتابعة، وذلك ليس نتيجة لقوة السوشيال ميديا، لكن لطغيان النظام على الساحة الإعلامية وهيمنته الكاملة على المجال، ومن ثم أصبح الحل الوحيد للقنوات غير المؤيّدة، وليس فقط المعارضة، أن تبثّ من خارج مصر بما يترتّب على ذلك من تبعات".