09 نوفمبر 2024
صفقة ترامب.. كيان أقل من حكم ذاتي
بدأت تتسرّب، في الآونة الأخيرة، ملامح صفقة الرئيس الأميركي، ترامب، المسماة "صفقة القرن"، والمزمع الإعلان عنها بعد أسابيع قليلة. والتسمية التفخيمية، على أي حال، يُراد بها إسباغ أهمية كبرى زائفة، كحال بعض الإعلانات التجارية التي تخاطب المستهلك: أنت رابحٌ دائماً، والربح هذه المرة أكبر من كل المرات السابقة. أما أنها "صفقة"، فإنه ينفي عنها صفة الخطة أو المشروع. أما ملامحها وخطوطها العريضة فمستقاةٌ من تقارير صحافية عربية وإسرائيلية، تتلاقى، في فحواها، مع إيماءات المبعوث الأميركي الرئاسي الشاب، جاريد كوشنر، الذي انتقل من مهنة التطوير العقاري إلى وظيفة مستشار ومبعوث للبيت الأبيض، مولج بمعالجة إحدى أعقد قضايا عالمنا المعاصر، وهي قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقد قام بزيارات متعاقبة لمنطقة الشرق الأوسط خلال العامين الماضي والجاري.
وأهم ملامح الصفقة أنها لا تستند إلى مرجعية دولية شرعية، أي قرارات مجلس الأمن ذات العلاقة على مدى أكثر من سبعة عقود. ولا تسعى إلى استكمال ما تم البدء به، من مفاوضات ومشاريع التسوية، كاتفاق أوسلو مثلاً. وتكاد الصفقة تنطلق من نقطة بدءٍ لا سابق لها. وهذا مما يتناسب كلياً مع رؤية الاحتلال الإسرائيلي الذي يرغب بالقفز عن كل مرجعيةٍ وكل شرعية، بل كل معايير للتسويات الجادة التي تستحقّ صفتها هذه. والاحتكام، بدلاً من ذلك، إلى معيار القوة العسكرية ومحدّدات الأمر الواقع.
ثم تتكشف شيئاً فشيئاً ملامح هذه الصفقة بتحريفها، المتعمد بالطبع، لجوهر الصراع والتسوية،
وهي أرض فلسطين التي نشأت على جزءٍ كبيرٍ منها الدولة العبرية عام 1948، وتم استكمال الاستيلاء على بقية الأرض في حرب عام 1967، إلى أن انسحبت قوات الاحتلال من قطاع غزة عام 2005، وأبقت على الحصارين الجوي والبحري عليه، وشدّدت من إطباقها على الضفة الغربية (والجولان السوري). وتكاد الصفقة تُسلّم بحقٍّ مزعوم في احتلال أرض الآخرين، وعلى الأخص القدس ومحيطها، وكذلك "الحق" في الغزو الاستيطاني، وإعادة الهندسة الديمغرافية للضفة الغربية المحتلة بصورة قسرية، وبالذات في القدس وما حولها، مع منح الرازحين تحت الاحتلال ما تسمّى فرصاً اقتصادية، بديلاً عن حقهم في أرض الآباء والأجداد، والتي لا أرض لهم سواها. وهي عمليةٌ أشبه بمن يختطف بالقوة الغاشمة أفراد عائلةٍ ما ويقوم بتغييبهم، ثم القيام بتقديم عرض مالي لرب العائلة، تعويضاً له عن جميع أفراد عائلته المخطوفة والمغيّبة.
وتبعاً لما تسرّب، فإن مناطق أ و ب في الضفة الغربية، حسب تصنيف إعلان المبادئ (اتفاق اوسلو) لعام 1993، وبما يناهز نحو 40% من أراضي الضفة، سوف تتمتع بحكم إداري مدني، وقد تضاف إليها أحياء في القدس، مع احتفاظ الاحتلال بالسيطرة على الحدود والأجواء، على أن هذا الكيان لن يكتسب صفة الديمومة، فالمطلوب هو الشروع بغير تأخير، بمفاوضاتٍ لإرساء وحدة اندماجية مع الأردن. علاوة على إقامة مناطق اقتصادية مشتركة على الحدود، فيما يُصار، بعدئذ، إلى إجراء مفاوضاتٍ مع الاحتلال، من أجل وضع ترتيبات الوضع النهائي. على أن يتم فتح مشاريع اقتصادية كبيرة في الضفة الغربية (تجعل منها نسخة من هونغ كونغ!)، وتسهيل التبادل التجاري وانتقال العمال الفلسطينيين للعمل في إسرائيل. ويُراد من دول خليجية الإسهام بصورة كبيرة في الإنعاش الاقتصادي.
وكما هو جلي، لم تتضح بعض تفاصيل الصفقة بعد، ترمي إلى تصفيةٍ نهائيةٍ للقضية الفلسطينية، تقوم على شرعنة الأمر الواقع الاحتلالي، وتقويض الكيانية السياسية الفلسطينية، وكذلك طمس الهوية الوطنية الفلسطينية، وتذويب ذلك كله في أتون المصالح والفرص والمكاسب الاقتصادية. ويساجل مسؤولون أميركيون في البيت الأبيض أن مفاهيم السيادة والحدود، وحتى مفهوم الدولة المستقلة، قد طرأ عليها تغيير كبير في ظل العولمة. ويراد بهذه التفسيرات مخاطبة الفلسطينيين، غير أن هؤلاء المسؤولين لا يفكرون أبداً بمخاطبة إسرائيل بهذا المنطق.. إسرائيل التي تريد كل شيء على الأقل.
بينما تمنح هذه الصفقة للفلسطينيين كياناً هو أقرب إلى مناطق إدارية اقتصادية ذات أنظمة
ٍ خاصة، لتسيير الأعمال والتوظيف، واستيفاء الرسوم، وضمان انسياب السلع والأفراد، فيما السيادة كلها والسلطة جميعها للاحتلال. وعلى سبيل المثال، سوف يسمح باستمرار الوصاية الأردنية على الأماكن الإسلامية والمسيحية في القدس، وفق الخطة (وبدون وقف الانتهاكات بحق هذه الأماكن!)، لكن السيادة على هذه الأماكن تبقى للاحتلال، لكون هذه الأماكن جزءاً من القدس التي تخضع للسيادة الإسرائيلية. وبهذا، سوف يكون الكيان المزمع إنشاؤه وفق الصفقة، في واقع الأمر، أقل من حكم ذاتي، فإقليم كردستان العراق المتمتع بحكم ذاتي يمتلك قوة شرطة وجيش (البشمركة)، ولا قيود على حجم الجيش وقوة الشرطة، ولديه حدودٌ معترفٌ بها، إضافة إلى السلطات التشريعية والتنفيذية، علماً أن نموذج كردستان العراق لا يلبّي الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية في التحرّر والاستقلال.
الإنعاش الاقتصادي مرغوب ومطلوب، إذ يسند التسويات الجدّية، ويمنحها فرص الاستدامة، ويفتح الآفاق على التعاون المستقبلي بين الشعوب، كما حدث مع ألمانيا واليابان، بعد الحرب الكونية الثانية في مشروع مارشال، غير أنه لم يحدث بعد أن تم تصنيف المشاريع الاقتصادية بديلاً للحلول السياسية، أو أن شعباً ما يمكنه قبول رشى اقتصادية، لقاء التخلي عن كل شيء، عن: أرضه وهويته وحريته وتراثه ومستقبله. وذلك إكراماً لجموعٍ من متطرفين، ذوي نزعة عنصرية وغيبية، كحال زعامات اليمين الديني والحزبي في تل أبيب، وقد بدا أنهم جدّدوا الحلف الإسرائيلي الأميركي "التاريخي"، بمنحه صفة إضافية، هذه المرة، وهي الصفة "الدينية" التي تتلاقى فيها رؤى المتطرّفين الصهاينة، مع سياسيين ذوي رؤية إنجيلية في البيت الأبيض، وفي وزارة الخارجية الأميركية، ممن يعتبرون أن منظمة الأمم المتحدة لا لزوم لها، والمرجعية الشرعية الدولية لا تعنيهم في شيء، وكذلك مبادئ حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير والاحترام المتبادل بين الثقافات واتباع العقائد والأديان.
وأهم ملامح الصفقة أنها لا تستند إلى مرجعية دولية شرعية، أي قرارات مجلس الأمن ذات العلاقة على مدى أكثر من سبعة عقود. ولا تسعى إلى استكمال ما تم البدء به، من مفاوضات ومشاريع التسوية، كاتفاق أوسلو مثلاً. وتكاد الصفقة تنطلق من نقطة بدءٍ لا سابق لها. وهذا مما يتناسب كلياً مع رؤية الاحتلال الإسرائيلي الذي يرغب بالقفز عن كل مرجعيةٍ وكل شرعية، بل كل معايير للتسويات الجادة التي تستحقّ صفتها هذه. والاحتكام، بدلاً من ذلك، إلى معيار القوة العسكرية ومحدّدات الأمر الواقع.
ثم تتكشف شيئاً فشيئاً ملامح هذه الصفقة بتحريفها، المتعمد بالطبع، لجوهر الصراع والتسوية،
وتبعاً لما تسرّب، فإن مناطق أ و ب في الضفة الغربية، حسب تصنيف إعلان المبادئ (اتفاق اوسلو) لعام 1993، وبما يناهز نحو 40% من أراضي الضفة، سوف تتمتع بحكم إداري مدني، وقد تضاف إليها أحياء في القدس، مع احتفاظ الاحتلال بالسيطرة على الحدود والأجواء، على أن هذا الكيان لن يكتسب صفة الديمومة، فالمطلوب هو الشروع بغير تأخير، بمفاوضاتٍ لإرساء وحدة اندماجية مع الأردن. علاوة على إقامة مناطق اقتصادية مشتركة على الحدود، فيما يُصار، بعدئذ، إلى إجراء مفاوضاتٍ مع الاحتلال، من أجل وضع ترتيبات الوضع النهائي. على أن يتم فتح مشاريع اقتصادية كبيرة في الضفة الغربية (تجعل منها نسخة من هونغ كونغ!)، وتسهيل التبادل التجاري وانتقال العمال الفلسطينيين للعمل في إسرائيل. ويُراد من دول خليجية الإسهام بصورة كبيرة في الإنعاش الاقتصادي.
وكما هو جلي، لم تتضح بعض تفاصيل الصفقة بعد، ترمي إلى تصفيةٍ نهائيةٍ للقضية الفلسطينية، تقوم على شرعنة الأمر الواقع الاحتلالي، وتقويض الكيانية السياسية الفلسطينية، وكذلك طمس الهوية الوطنية الفلسطينية، وتذويب ذلك كله في أتون المصالح والفرص والمكاسب الاقتصادية. ويساجل مسؤولون أميركيون في البيت الأبيض أن مفاهيم السيادة والحدود، وحتى مفهوم الدولة المستقلة، قد طرأ عليها تغيير كبير في ظل العولمة. ويراد بهذه التفسيرات مخاطبة الفلسطينيين، غير أن هؤلاء المسؤولين لا يفكرون أبداً بمخاطبة إسرائيل بهذا المنطق.. إسرائيل التي تريد كل شيء على الأقل.
بينما تمنح هذه الصفقة للفلسطينيين كياناً هو أقرب إلى مناطق إدارية اقتصادية ذات أنظمة
الإنعاش الاقتصادي مرغوب ومطلوب، إذ يسند التسويات الجدّية، ويمنحها فرص الاستدامة، ويفتح الآفاق على التعاون المستقبلي بين الشعوب، كما حدث مع ألمانيا واليابان، بعد الحرب الكونية الثانية في مشروع مارشال، غير أنه لم يحدث بعد أن تم تصنيف المشاريع الاقتصادية بديلاً للحلول السياسية، أو أن شعباً ما يمكنه قبول رشى اقتصادية، لقاء التخلي عن كل شيء، عن: أرضه وهويته وحريته وتراثه ومستقبله. وذلك إكراماً لجموعٍ من متطرفين، ذوي نزعة عنصرية وغيبية، كحال زعامات اليمين الديني والحزبي في تل أبيب، وقد بدا أنهم جدّدوا الحلف الإسرائيلي الأميركي "التاريخي"، بمنحه صفة إضافية، هذه المرة، وهي الصفة "الدينية" التي تتلاقى فيها رؤى المتطرّفين الصهاينة، مع سياسيين ذوي رؤية إنجيلية في البيت الأبيض، وفي وزارة الخارجية الأميركية، ممن يعتبرون أن منظمة الأمم المتحدة لا لزوم لها، والمرجعية الشرعية الدولية لا تعنيهم في شيء، وكذلك مبادئ حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير والاحترام المتبادل بين الثقافات واتباع العقائد والأديان.