23 أكتوبر 2024
صناعة الإرهاب
الحكم الصادر عن محكمة العدل العليا الكندية، الأسبوع الماضي، والقاضي بتبرئة زوجين كنديين أدينا بتهمة الإرهاب، "تاريخي" بامتياز، كما وصفته صحيفة "الغارديان" البريطانية. وقد اعتمدت المحكمة في تبرئتها الزوجين اللذين كانا محكومين بالسجن المؤبد، على أنهما وقعا في فخّ نصبته لهما الشرطة الكندية، التي دفعتهما إلى القيام بـ"جريمةٍ من صنعها". وقد اعترف الزوجان، اللذان كانت قد أدانتهما بتهمة الإرهاب محاكم كندا، بأنهما زرعا قنابل منزلية الصنع (طناجر ضغط) عام 2013، لتفجير بناية عمومية، في مناسبة احتفالات رسمية في كندا تجذب آلاف المحتفلين إلى المنطقة.
قالت قاضية محكمة العدل العليا، كاثرين بروس، التي ألغت الحكم السابق ضد الزوجين، في تعليلها حكمها إن الشرطة الكندية تلاعبت بالمذنبين حديثي العهد بالإسلام، ودفعتهما إلى محاولة ارتكاب فعلتهما. وكتبت في تثبيت حكمها "هذه حالة واضحة لجريمةٍ صنعتها الشرطة. العالم لديه ما يكفي من الإرهابيين. ولسنا بحاجةٍ لأن تخلق الشرطة المزيد من المهمشين". وهذه أول مرة تعترف فيها هيئة قضائية غربية، وهي أعلى محكمة في دولة ديمقراطية مثل كندا، بأن مخابرات بلدها هي من يصنع الإرهاب داخل البلد.
سبق لتقارير مخابراتية، ولتقارير بحثية أصدرتها مراكز دراسات وبحوث، وتقارير وتحقيقات صحافية، أن أشارت إلى تورط مخابرات دول ديمقراطية في التأثير على أشخاص عاديين، والإيعاز لهم بالمشاركة في مؤامرات إرهابية، أو دفعهم إلى القيام بأعمال إرهابية، قبل القبض عليهم ومحاكمتهم باعتبارهم إرهابيين حقيقيين خطيرين.
بعد أحداث "11 سبتمبر" في أميركا، وإعلان الإدارة الأميركية آنذاك حربها العالمية ضد الإرهاب، انخرطت الأجهزة الأمنية في أميركا، وفي أكثر من دولة، لشن حروب استباقية ضد الإرهاب، ورصدت حكومات دول عديدة ميزانيات ضخمة لأجهزة مخابراتها، وأطلقت لها العنان، لخرق كل القوانين، وتجاوز كل المحظورات في حربها الاستباقية ضد الإرهاب، بمبرّر حماية الأوطان، وصيانة أمن المواطنين. لكن، في أغلب الحالات، تحولت تلك الحرب إلى مصدر لتقوية أذرع المخابرات وتغولها، خصوصاً في الدول التي لا توجد فيها سلطات ديمقراطية قادرة على مراقبة عمل مخابراتها ومحاسبته. وتحولت أجهزة المخابرات في بعض الدول إلى "دولةٍ داخل الدولة"، تستعمل قضية الإرهاب مبرّراً لابتزاز الحاكم وتخويف المواطن. ومن أجل ذلك، باتت مستعدة لاختلاق وافتعال، بل وحتى تنفيذ أعمال إرهابية، لإثبات جدوى وجودها، وتبرير ميزانياتها الضخمة التي لا تخضع، في أغلب هذه الدول، لأية مراقبة قبلية أو بعدية. وهكذا تحول "الإرهاب" في منطق بعض أجهزة المخابرات في دول غير ديمقراطية إلى صناعةٍ حقيقيةٍ، مدرة للأرباح وللشهرة وللامتيازات، ومصدراً للتكسب والاغتناء على حساب الشعب.
سبق لصحافي التحقيقات الأميركي، تريفور آرونسون، أن كشف أن أكبر منظمة مسؤولة عن
مؤامراتٍ إرهابيةٍ استهدفت الولايات المتحدة، ليست "القاعدة"، أو حركة الشباب الإسلامية، أو تنظيم داعش، وإنما جهاز المباحث الفيدرالية الأميركية المعروف اختصارا بـ "إف بي آي". فبعد أحداث "11سبتمبر" في العام 2001 في أميركا، أصبح هذا الجهاز ينفق 3.3 مليارات دولار سنوياً على أنشطته الموجهة إلى مكافحة الإرهاب المحلي، وجنّد آلاف المخبرين لتصيّد "الإرهابيين" مقابل مائة ألف دولار للرأس، مما دفع هذا الجهاز، كما كشف الصحافي الأميركي، إلى أن يصبح "أكثر براعةً في صنع الإرهابيين مما هو عليه في القبض على الإرهابيين". وحسب تحريات آرونسون، فإن أغلب هذه الأموال صرفت في ما سميت عمليات استباقية سرية، لإحباط محاولات إرهابية، وأغلب هذه العمليات غالبا ما كان يقودها مخبرٌ يوفر الوسائل والفرص، وأحياناً حتى الفكرة لمختلين عقلياً، أو ليائسين اقتصادياً، ليحولهم إلى "إرهابيين"، حسب ما وصلت إليه تحقيقات أرونسون الذي أورد نماذج لحالات "الإرهابيين" الذين صنعتهم أجهزة مخابرات بلاده، وبعضهم مختل عقلياً أو مدمن مخدرات رخيصة، أو أشخاص يعانون من اضطراباتٍ عاطفية، أو مجرّد يائسين من الحياة ومقبلين على الانتحار، يقوم العميل بتوجيههم ورسم الخطط "الإرهابية" لهم، وتحديد أهدافهم وتوفير المال والمعدات لأفعالهم، بل وحتى تسجيل فيديوهات، تعلن تبنيهم أفعالهم وتشرح دوافعهم لفعل ذلك! وبعد ذلك، يتم الإعلان عن اكتشاف "المخطط الإرهابي"، وتنتهي العملية بفيلم هوليوودي، يبرز تفوق جهاز الأمن الفيدرالي في إحباط العملية، وإلقاء القبض على "الأشرار".
نشر تحقيقات هذا الصحافي الأميركي موقع "ذا إنترسبت" المخصص لصحافة التحقيقات، والذي أنشئ خصيصا لحماية الصحافيين المحققين، ونشر أعمالهم التي تتعامل مع قضايا حسّاسة جدا، كما نشرت بعد ذلك في مقالات في مجلاتٍ متخصصةٍ، وفي كتاب، وتم تقديمها عبر عدة وسائل إعلام مرئية ومسموعة ورقمية، ولم يطعن فيها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، بل واعتمدتها منظمات محترمة، مثل هيومن رايتس ووتش، في تقاريرها.
الخلاصات نفسها التي كان الصحافي الأميركي يصل إليها في تحقيقاته، هي التي خلصت إليها القاضية الكندية، لتبرير حكمها، عندما قالت إن المتهميْن الكنديين كانا مجرد "بيدقين" بيد الشرطة، دفعتهما إلى محاولة ارتكاب فعل إرهابي. وعلى الرغم من أنهما كانا يعتنقان بعض وجهات النظر المتطرّفة التي ترى في العنف سبيلاً إلى تحقيق أهداف سياسية، إلا أن القاضية اعتبرت أن الشرطة تجاوزت حدود سلطتها، مؤسسةً تعمل على تطبيق القانون.
الجميل في قصة القاضية الكندية والصحافي الأميركي أن كليهما ما زال حياً يرزق، ينعم بحريته ويمارس وظيفته، فماذا كان سيكون مصير قاضيةٍ أو صحافيٍّ، قاما بالعمل نفسه، ووصلا إلى الاستنتاجات نفسها، في أيٍّ من البلدان العربية التي تحكمها المخابرات؟ أعتقد أن الجواب يعرفه الجميع، وهو ما يجعلهم يصمتون على ما يُرتكب في بلدانهم من تجاوز للقانون، ترتكبه أجهزة مخابراتهم باسم الحرب ضد الإرهاب التي تحولت، في بعض الدول، إلى "صناعة للاستبداد".
قالت قاضية محكمة العدل العليا، كاثرين بروس، التي ألغت الحكم السابق ضد الزوجين، في تعليلها حكمها إن الشرطة الكندية تلاعبت بالمذنبين حديثي العهد بالإسلام، ودفعتهما إلى محاولة ارتكاب فعلتهما. وكتبت في تثبيت حكمها "هذه حالة واضحة لجريمةٍ صنعتها الشرطة. العالم لديه ما يكفي من الإرهابيين. ولسنا بحاجةٍ لأن تخلق الشرطة المزيد من المهمشين". وهذه أول مرة تعترف فيها هيئة قضائية غربية، وهي أعلى محكمة في دولة ديمقراطية مثل كندا، بأن مخابرات بلدها هي من يصنع الإرهاب داخل البلد.
سبق لتقارير مخابراتية، ولتقارير بحثية أصدرتها مراكز دراسات وبحوث، وتقارير وتحقيقات صحافية، أن أشارت إلى تورط مخابرات دول ديمقراطية في التأثير على أشخاص عاديين، والإيعاز لهم بالمشاركة في مؤامرات إرهابية، أو دفعهم إلى القيام بأعمال إرهابية، قبل القبض عليهم ومحاكمتهم باعتبارهم إرهابيين حقيقيين خطيرين.
بعد أحداث "11 سبتمبر" في أميركا، وإعلان الإدارة الأميركية آنذاك حربها العالمية ضد الإرهاب، انخرطت الأجهزة الأمنية في أميركا، وفي أكثر من دولة، لشن حروب استباقية ضد الإرهاب، ورصدت حكومات دول عديدة ميزانيات ضخمة لأجهزة مخابراتها، وأطلقت لها العنان، لخرق كل القوانين، وتجاوز كل المحظورات في حربها الاستباقية ضد الإرهاب، بمبرّر حماية الأوطان، وصيانة أمن المواطنين. لكن، في أغلب الحالات، تحولت تلك الحرب إلى مصدر لتقوية أذرع المخابرات وتغولها، خصوصاً في الدول التي لا توجد فيها سلطات ديمقراطية قادرة على مراقبة عمل مخابراتها ومحاسبته. وتحولت أجهزة المخابرات في بعض الدول إلى "دولةٍ داخل الدولة"، تستعمل قضية الإرهاب مبرّراً لابتزاز الحاكم وتخويف المواطن. ومن أجل ذلك، باتت مستعدة لاختلاق وافتعال، بل وحتى تنفيذ أعمال إرهابية، لإثبات جدوى وجودها، وتبرير ميزانياتها الضخمة التي لا تخضع، في أغلب هذه الدول، لأية مراقبة قبلية أو بعدية. وهكذا تحول "الإرهاب" في منطق بعض أجهزة المخابرات في دول غير ديمقراطية إلى صناعةٍ حقيقيةٍ، مدرة للأرباح وللشهرة وللامتيازات، ومصدراً للتكسب والاغتناء على حساب الشعب.
سبق لصحافي التحقيقات الأميركي، تريفور آرونسون، أن كشف أن أكبر منظمة مسؤولة عن
نشر تحقيقات هذا الصحافي الأميركي موقع "ذا إنترسبت" المخصص لصحافة التحقيقات، والذي أنشئ خصيصا لحماية الصحافيين المحققين، ونشر أعمالهم التي تتعامل مع قضايا حسّاسة جدا، كما نشرت بعد ذلك في مقالات في مجلاتٍ متخصصةٍ، وفي كتاب، وتم تقديمها عبر عدة وسائل إعلام مرئية ومسموعة ورقمية، ولم يطعن فيها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، بل واعتمدتها منظمات محترمة، مثل هيومن رايتس ووتش، في تقاريرها.
الخلاصات نفسها التي كان الصحافي الأميركي يصل إليها في تحقيقاته، هي التي خلصت إليها القاضية الكندية، لتبرير حكمها، عندما قالت إن المتهميْن الكنديين كانا مجرد "بيدقين" بيد الشرطة، دفعتهما إلى محاولة ارتكاب فعل إرهابي. وعلى الرغم من أنهما كانا يعتنقان بعض وجهات النظر المتطرّفة التي ترى في العنف سبيلاً إلى تحقيق أهداف سياسية، إلا أن القاضية اعتبرت أن الشرطة تجاوزت حدود سلطتها، مؤسسةً تعمل على تطبيق القانون.
الجميل في قصة القاضية الكندية والصحافي الأميركي أن كليهما ما زال حياً يرزق، ينعم بحريته ويمارس وظيفته، فماذا كان سيكون مصير قاضيةٍ أو صحافيٍّ، قاما بالعمل نفسه، ووصلا إلى الاستنتاجات نفسها، في أيٍّ من البلدان العربية التي تحكمها المخابرات؟ أعتقد أن الجواب يعرفه الجميع، وهو ما يجعلهم يصمتون على ما يُرتكب في بلدانهم من تجاوز للقانون، ترتكبه أجهزة مخابراتهم باسم الحرب ضد الإرهاب التي تحولت، في بعض الدول، إلى "صناعة للاستبداد".