صناعة القطيع
يتغذّى سلوك القطيع، عموماً، وفي هذه المنطقة المسماة العالم العربي، على نحو خاص، من إرث سياسي، واجتماعي، وديني، ضارب الجذور، وليس صعباً وضع اليد على أخطر مظاهره، واكتشاف مصادر نشوئها، بمجرد تتبع مسار صراع على السلطة، اندلع منذ أكثر من ألف عام، واتكأ على أسباب مذهبية، وطائفية، ما انفكت تؤجج ثارات الدم إلى يومنا هذا.
والمقصود بسلوك القطيع انسياق فرد إلى فعل مشترك مع أفراد آخرين، أو مع الجموع، دونما تفكير بمبرراته، أو معرفة من يحركه، أو ماذا يتوخى منه، وهو قد يكون بدائياً، أنتجته الحميات الدينية أو القومية أو القبلية، عبر صيرورة تاريخية، طويل الأمد، وقد يكون حديثاً، صنعته الطبقات المسيطرة في المجتمعات الغربية المعاصرة، بغية حماية مصالحها، وقد يكون هجيناً، أي ثمرة مزاوجة الموروث الثقافي بمصالح السلطة، لا سيما في العالم الثالث.
أنت لا يمكنك، مثلاً، سوى أن تفكر في كُنْهِ سلوك القطيع، حين ترى ألوف الرجال والنساء في لندن، أو باريس، أو واشنطن، يتدفقون إلى محطات القطارات، تحت الأرض، ولا يرفعون عيونهم عن الأدراج الكهربائية، لدى ذهابهم، إلى أعمالهم صباحاً، أو حين عودتهم منها مساء، وكذا حين يهرولون إلى حانات ونوادي السهر، في عطلة نهاية الأسبوع، ليعودوا عند فجر كل يوم سبت، أمة من السكارى. وإذ أشاهدهم شخصياً على هذا النحو بحكم إقامتي المؤقتة في العاصمة البريطانية، منذ شهور، فإنني لا أستطيع سوى أن أتأمل، ملياً، في كيف تستغل القوى المسيطرة على هذه المجتمعات، أحد أهم إنجازات البنية التحتية في الغرب، وأعني وسائل المواصلات، من أجل برمجة حراك الناس، بشكل يخدم استمرار دوران عجلة الإنتاج الرأسمالي، لكن من دون أن يسري سلوك القطيع على الحياة السياسية، تشنجاَ دينياَ، أو تقديساً للحاكم.
لا يغيب عن الذهن هنا أن سلوك القطيع، في هذه الحال، يستمر بفعل حوافز اقتصادية، توفر للعامة حداً معقولاً من العيش الكريم، وهوامش سياسية، يتمتع الفرد فيها بحق الاختلاف، وحرية التعبير عنه، في المنابر الإعلامية وفي الانتخابات الحرة النزيهة، بصرف النظر عن حدود قدرته الفعلية على التغيير.
على النقيض من تلك الصورة، أو قل في مقابلها العربي، أنت ترى، منذ نحو عقدين على الأقل، ألوفاً مؤلفة من البشر الذين لا يجد بعضهم قوت يومه، يحاربون حتى الموت، ويسفكون دم أبناء جلدتهم، وإخوانهم في العقيدة الدينية، بحجة الفزعة لمتر مربع في الأرض، يظنون أن أحد أسلاف أسلافهم مدفون فيه، ومن دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير، في حقيقة الأهداف، التي يتوخاها مدعو الخطر المحدق بقبرِ، لم يتعرض لأي انتهاك، طوال قرون سلفت. وتلك أفعال لا يمكن الاكتفاء بتفسيرها، على أنها استئناف لصراع غابر على الخلافة الإسلامية بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، بقدر ما تشير إلى صراع مصالح إقليمية، ودولية، استثمرت إيران فيه تاريخ الدم، واستطاعت أو تكاد أن تُحَوِّل المذهب الديني إلى قومية بديلة.
المثال الآخر على النوع الهجين من سلوك القطيع، هو ذاك الذي يجعل المقدسات الدينية الإسلامية، والحاكم الفرد، واحداً لا يتجزأ، وترى فيه ألوف السعوديين الذين يعانون من تكيميم الأفواه وفساد السلطة، وشظف العيش، على أرضهم الثرية، وقد انخرطوا في معارك قذرة الألفاظ والتعبيرات والدلالات، على مواقع الإنترنت، دفاعاً عن أمير يبدد ثروات بلاده من أجل أن يحظى بمباركة المستعمرين الجدد على أن يتولى عرشها. في مفهوم هؤلاء، يصير كل نقد لولي العهد محمد بن سلمان إساءة للحرمين الشريفين، ويصير كل من ينتقده متهماً بالارتزاق، أو العمالة لإسرائيل والصهيونية، كأنهم لا يرون، ولا يسمعون كم تستميت إسرائيل والصهيونية ذاتهما، في معركة تثبيت أقدامه، وكم يخسرون هم، وتخسر أوطانهم، كلما انتصروا، أو ظنوا أنفسهم ينتصرون.