للتراث سحر لا يشبه أي سحر آخر، فهو يختزن تفاصيل وذكريات أزمنة مضت. وقد تروي قطعة خشبية، كصندوق العرس، حكايات بيوت كثيرة بكل أسرارها وتفاصيلها. لكنها قد تتحوّل مع الزمن وتغيّر العادات إلى مجرّد مقيم يضيق به المكان، ويركن في الزوايا المنسية، في انتظار يدٍ تمسح عنه غبار الزمن، لتعيد إليه بريقه وتكشف كنوزه العتيقة.
في زمن مضى، كان صندوق العرس يرافق العروس، أو يسبقها أحياناً، إلى بيت زوجها، بعد أن تحمِّله كلّ ذكرياتها وأفراحها البريئة، قبل أن تضع فيه جهاز عرسها. فكأنها تودِع فيه مرحلة كاملة من حياتها، بكلّ ما تحمل من أسرار وحكايات قد تختزلها هدية صغيرة أو قارورة عطر أو حلية أو منديل... كما ترتّب فيه أحلامها المرصّعة بفرحة العروس.
أصول هندية
تنقل بعض الروايات القديمة، المتوارثة جيلاً بعد جيل، أنّ أصل الصندوق يعود إلى الهند، وقد قدم مع التجار إلى منطقة الجزيرة العربية لينتشر منها في كل أنحاء الوطن العربي، وتقول روايات أخرى إنه قدم إلينا من إسبانيا، خلال فترة الحكم العربي لها، ويرجع آخرون بداية انتشاره إلى فترة الحكم البرتغالي لسلطنة عُمان. ورغم تعدّد الروايات حول أصول هذا الصندوق والعادات التي يرتبط بها، إلا أنّ الأمر المؤكد أنه أصبح قطعة رئيسية من تراث المنطقة العربية بأكملها، ومنها سورية.
لعلّ أجمل صفات "صندوق العرس"، المعروف باسم "صندوق المبيت" في الخليج العربي، هي أنّه لا يُباع، بل تتوارثه العائلة من جيل إلى جيل. يُصنع الصندوق لعروس محدّدة، أي وفق الطلب، وبمواصفات تختلف حسب الحالة المادية للعريس. وقد كانت العرائس يضعن فيه ملابسهن وحليهنّ وعطوراتهن وكل تفاصيلهن الشخصية لينقلنها إلى بيت الزوجية. ويبقى الصندوق صديقهن، الحامل لأسرارهن، مدى الحياة، أو قد تهديه بعض الأمهات إلى بناتهن الأبكار في زفافهنّ، أو إلى عرائس أبنائهن الأبكار، ليعود إلى بيت العائلة محمّلاً بأحلام عروس جديدة.
إقرأ أيضا:جدّتي التي أحبّتني بصمت "بلادها" المنكوبة
صندوق الأسرار
يروي أنس العبد الله، من ريف إدلب، بعض ذكرياته مع صندوق عرس جدّته، فيقول: "كان في بيتنا صندوقان، صندوق عرس والدتي الموضوع في صالون البيت، والمليء بالأقمشة والشراشف وبعض حاجيات أمي القديمة، وهو صندوق بسيط مصنوع من خشب السنديان ومزيّن ببعض الرسومات البسيطة.
أما الصندوق الثاني فهو صندوق جدتي الذي لم يفارق غرفتها إلا بعد وفاتها، حيث أُهمل بوجود الأثاث الجديد للغرفة ليتحوّل، للأسف، إلى خُمّ للدجاج. لم يكن صندوق أمي يشكل الكثير بالنسبة لنا كأطفال، فقد كان مكشوفاً، ونستطيع فتحه والاطلاع على ما في داخله في أيّ وقت. لكن صندوق جدتي بقي لغزاً غامضاً يُثير في دواخلنا رغبة الاكتشاف لنجتمع حولها كلما أرادت فتحه".
يتابع العبد الله حديثه مبتسماً: "لقد كنّا صغاراً، وكان فتح صندوق جدّتي يتحوّل إلى مهرجان يشبه مهرجان الأطفال في الأعياد، حول "صندوق الفرجة". فقد كانت تحتفظ في صندوقها بأشياء غريبة، معظمها قديم، كمسابح متعددة الأشكال والألوان، ومنظار أحضرته معها من إحدى زيارات الحج منذ زمن بعيد، لكننا لم نملّ من طلبه كلّ مرة.
كما احتوى الصندوق على أقمشة قديمة كانت قد تلقتها كهدية ذات يوم، إضافة إلى الكثير من الصُرر الملونة، والتي بقي ما تحتويه سرّاً لم نكتشفه حتى اليوم. لكنّ الأهمّ، أنها كانت تحتفظ بالحلويات هناك، فتوزعها علينا إعلاناً بانتهاء الفرجة".
يصنع صندوق العروس من خشب السيسم أو خشب الصاج، كما يستخدم خشب السنديان في صناعته في بعض المناطق. ويزيّن بمسامير فضية أو نحاسية، للاعتقاد السائد بأن الفضة والنحاس يجلبان الخير ويبعدان الحسد على عكس ما يفعله الحديد. أما الصناديق المترفة فترصع بالصدف أو العاج لتصبح قطعة فنية غاية في الروعة. لصندوق العرس قاعدة بأربعة أرجل تصنع عادة من الخشب المقوى المزخرف بنقوش يدوية وقد تكون مرصعة بالصدف أيضا.
كان اقتناء صندوق العروس عادة شعبية تتبعها كل شرائح المجتمع، مما أدى إلى التنوع الكبير في حجمه وتقانة تصنيعه وزخرفته. فكان صندوق الفقراء يأخذ شكلا غاية في البساطة ويبقى على لونه الخشبي مع نقوش بسيطة تتمثل بالمسامير النحاسية فقط، تضع فيه العروس كل أغراضها، القليلة أصلا، مع بعض قطع المطبخ أو الشراشف والمطرزات. لكن حجم الصندوق يزداد بازدياد ثروة العريس، ليصل إلى أحجام كبيرة لصناديق مزودة بعدة أدراج مزخرفة بالصدف والأحجار الكريمة أحياناً.
فارس أبو شقرا، أستاذ جامعي من سكان مدينة دمشق، يتحدث عن قيمة صندوق عرس والدته فيقول: "لقد كان الصندوق هو القطعة الأكثر تميزاً في أثاث بيت العائلة البسيط. فبالإضافة إلى كونه شيئاً خاصاً بوالدتي تجمع فيه كلّ حاجياتها الخاصة وتتباهى به أمام جاراتها، فقد كان تحفة فنية حقيقية، حيث تمّ استقدامه من لبنان، وكان مصنوعاً من خشب الزان ومزيّناً بنقوش محفورة في الخشب ومرصّعاً بالصدف والعاج".
يتابع الأستاذ أبو شقرا: "بعد وفاة والدتي، قرّرتُ الاحتفاظ بصندوقها تكريماً لذكراها. فنقلته إلى منزلي بدمشق، وكلّفت أحد مهندسي الديكور بتصميم صالة الاستقبال بكامل قطعها على نمط الصندوق، وهو يشبه فنّ الأرابيسك. لكن الصندوق لم يزل القطعة الأكثر تميزا في بيتي حتى اليوم".
انتشر صندوق العرس في بداية القرن العشرين في معظم الدول العربية وحمل في البحرين اسم "المبيت"، وذلك لأنه يسبق العروس إلى بيتها قبل الزفاف بيوم واحد، فيبيت قبلها في بيتها. كما سمي في الإمارات وعُمان باسم "المندوس"، أما في منطقة حوران فقد حمل اسم "السّبَت" بمعنى الوعاء الكبير، وفي الرقة حمل اسم "صندوق الزهّاب" وهو يعني مؤونة السفر.
أما اليوم، فبعد تطور الصناعات الخشبية، تم استبدال صندوق العرس بالخزائن الحديثة، لتتراجع عادة اقتنائه تدريجياً، إلى أن أصبح قطعة تراثية نادرة يهتم بها هواة جمع التراث والأنتيكات.
إقرأ أيضاً: الأنتيكات العراقيّة يكسوها التراب
في زمن مضى، كان صندوق العرس يرافق العروس، أو يسبقها أحياناً، إلى بيت زوجها، بعد أن تحمِّله كلّ ذكرياتها وأفراحها البريئة، قبل أن تضع فيه جهاز عرسها. فكأنها تودِع فيه مرحلة كاملة من حياتها، بكلّ ما تحمل من أسرار وحكايات قد تختزلها هدية صغيرة أو قارورة عطر أو حلية أو منديل... كما ترتّب فيه أحلامها المرصّعة بفرحة العروس.
أصول هندية
تنقل بعض الروايات القديمة، المتوارثة جيلاً بعد جيل، أنّ أصل الصندوق يعود إلى الهند، وقد قدم مع التجار إلى منطقة الجزيرة العربية لينتشر منها في كل أنحاء الوطن العربي، وتقول روايات أخرى إنه قدم إلينا من إسبانيا، خلال فترة الحكم العربي لها، ويرجع آخرون بداية انتشاره إلى فترة الحكم البرتغالي لسلطنة عُمان. ورغم تعدّد الروايات حول أصول هذا الصندوق والعادات التي يرتبط بها، إلا أنّ الأمر المؤكد أنه أصبح قطعة رئيسية من تراث المنطقة العربية بأكملها، ومنها سورية.
لعلّ أجمل صفات "صندوق العرس"، المعروف باسم "صندوق المبيت" في الخليج العربي، هي أنّه لا يُباع، بل تتوارثه العائلة من جيل إلى جيل. يُصنع الصندوق لعروس محدّدة، أي وفق الطلب، وبمواصفات تختلف حسب الحالة المادية للعريس. وقد كانت العرائس يضعن فيه ملابسهن وحليهنّ وعطوراتهن وكل تفاصيلهن الشخصية لينقلنها إلى بيت الزوجية. ويبقى الصندوق صديقهن، الحامل لأسرارهن، مدى الحياة، أو قد تهديه بعض الأمهات إلى بناتهن الأبكار في زفافهنّ، أو إلى عرائس أبنائهن الأبكار، ليعود إلى بيت العائلة محمّلاً بأحلام عروس جديدة.
إقرأ أيضا:جدّتي التي أحبّتني بصمت "بلادها" المنكوبة
صندوق الأسرار
يروي أنس العبد الله، من ريف إدلب، بعض ذكرياته مع صندوق عرس جدّته، فيقول: "كان في بيتنا صندوقان، صندوق عرس والدتي الموضوع في صالون البيت، والمليء بالأقمشة والشراشف وبعض حاجيات أمي القديمة، وهو صندوق بسيط مصنوع من خشب السنديان ومزيّن ببعض الرسومات البسيطة.
أما الصندوق الثاني فهو صندوق جدتي الذي لم يفارق غرفتها إلا بعد وفاتها، حيث أُهمل بوجود الأثاث الجديد للغرفة ليتحوّل، للأسف، إلى خُمّ للدجاج. لم يكن صندوق أمي يشكل الكثير بالنسبة لنا كأطفال، فقد كان مكشوفاً، ونستطيع فتحه والاطلاع على ما في داخله في أيّ وقت. لكن صندوق جدتي بقي لغزاً غامضاً يُثير في دواخلنا رغبة الاكتشاف لنجتمع حولها كلما أرادت فتحه".
يتابع العبد الله حديثه مبتسماً: "لقد كنّا صغاراً، وكان فتح صندوق جدّتي يتحوّل إلى مهرجان يشبه مهرجان الأطفال في الأعياد، حول "صندوق الفرجة". فقد كانت تحتفظ في صندوقها بأشياء غريبة، معظمها قديم، كمسابح متعددة الأشكال والألوان، ومنظار أحضرته معها من إحدى زيارات الحج منذ زمن بعيد، لكننا لم نملّ من طلبه كلّ مرة.
كما احتوى الصندوق على أقمشة قديمة كانت قد تلقتها كهدية ذات يوم، إضافة إلى الكثير من الصُرر الملونة، والتي بقي ما تحتويه سرّاً لم نكتشفه حتى اليوم. لكنّ الأهمّ، أنها كانت تحتفظ بالحلويات هناك، فتوزعها علينا إعلاناً بانتهاء الفرجة".
يصنع صندوق العروس من خشب السيسم أو خشب الصاج، كما يستخدم خشب السنديان في صناعته في بعض المناطق. ويزيّن بمسامير فضية أو نحاسية، للاعتقاد السائد بأن الفضة والنحاس يجلبان الخير ويبعدان الحسد على عكس ما يفعله الحديد. أما الصناديق المترفة فترصع بالصدف أو العاج لتصبح قطعة فنية غاية في الروعة. لصندوق العرس قاعدة بأربعة أرجل تصنع عادة من الخشب المقوى المزخرف بنقوش يدوية وقد تكون مرصعة بالصدف أيضا.
كان اقتناء صندوق العروس عادة شعبية تتبعها كل شرائح المجتمع، مما أدى إلى التنوع الكبير في حجمه وتقانة تصنيعه وزخرفته. فكان صندوق الفقراء يأخذ شكلا غاية في البساطة ويبقى على لونه الخشبي مع نقوش بسيطة تتمثل بالمسامير النحاسية فقط، تضع فيه العروس كل أغراضها، القليلة أصلا، مع بعض قطع المطبخ أو الشراشف والمطرزات. لكن حجم الصندوق يزداد بازدياد ثروة العريس، ليصل إلى أحجام كبيرة لصناديق مزودة بعدة أدراج مزخرفة بالصدف والأحجار الكريمة أحياناً.
فارس أبو شقرا، أستاذ جامعي من سكان مدينة دمشق، يتحدث عن قيمة صندوق عرس والدته فيقول: "لقد كان الصندوق هو القطعة الأكثر تميزاً في أثاث بيت العائلة البسيط. فبالإضافة إلى كونه شيئاً خاصاً بوالدتي تجمع فيه كلّ حاجياتها الخاصة وتتباهى به أمام جاراتها، فقد كان تحفة فنية حقيقية، حيث تمّ استقدامه من لبنان، وكان مصنوعاً من خشب الزان ومزيّناً بنقوش محفورة في الخشب ومرصّعاً بالصدف والعاج".
يتابع الأستاذ أبو شقرا: "بعد وفاة والدتي، قرّرتُ الاحتفاظ بصندوقها تكريماً لذكراها. فنقلته إلى منزلي بدمشق، وكلّفت أحد مهندسي الديكور بتصميم صالة الاستقبال بكامل قطعها على نمط الصندوق، وهو يشبه فنّ الأرابيسك. لكن الصندوق لم يزل القطعة الأكثر تميزا في بيتي حتى اليوم".
انتشر صندوق العرس في بداية القرن العشرين في معظم الدول العربية وحمل في البحرين اسم "المبيت"، وذلك لأنه يسبق العروس إلى بيتها قبل الزفاف بيوم واحد، فيبيت قبلها في بيتها. كما سمي في الإمارات وعُمان باسم "المندوس"، أما في منطقة حوران فقد حمل اسم "السّبَت" بمعنى الوعاء الكبير، وفي الرقة حمل اسم "صندوق الزهّاب" وهو يعني مؤونة السفر.
أما اليوم، فبعد تطور الصناعات الخشبية، تم استبدال صندوق العرس بالخزائن الحديثة، لتتراجع عادة اقتنائه تدريجياً، إلى أن أصبح قطعة تراثية نادرة يهتم بها هواة جمع التراث والأنتيكات.
إقرأ أيضاً: الأنتيكات العراقيّة يكسوها التراب