"كنتُ أبلغ من العمر خمسة أعوام، عندما بدأتْ والدتي ترسلني إلى دكّان العمّ موسى لأشتري لها بعض الحاجيات، عبر طريق القادوميّة". يجتاحها شعور طيّب وهي تحاول وصف الدكّان... "كان ثمّة رفّ خشبيّ عريض ممتدّ في صدر المكان، عُرِضَت عليه البضائع لا سيّما تلك التي تجذب أنظار صغار ذلك الزمان - نحن - وقلوبهم. خلفه، برّاد ممتدّ كذلك، وُضِعَت على طرف منه ماكينة لطحن البنّ. كانت الأكياس الورقيّة الخاصة بتعبئة البنّ - إذا لم تخنّي الذاكرة - خضراء وبيضاء. خلف البرّاد، بموازاة الحائط، رفوف امتلأت بمواد غذائيّة، من حليب وزيت ومعلّبات مختلفة. إلى اليمين، طاولة مكتب وهاتف أسود مع قرص ضخم، موضوع في خدمة الجميع لقاء بدل. نصف ليرة لبنانيّة أو ليرة واحدة. إلى جانب الطاولة، رُصِفَت خزائن خشبيّة مع أبواب زجاجيّة جرّارة حَوَت بضائع غير مخصّصة للأكل".
تتوقّف لبضع ثوانٍ، تغمض عينَيها كأنّما هي تحاول عدم إغفال أيّ من التفاصيل، قبل أن تتابع وصفها. "إلى اليسار، غرفة داخليّة كبيرة، اعتدتُ استراق النظر إليها. فضولي كان يدفعني إلى ذلك. في تلك الغرفة، كان العمّ موسى يعيش مع زوجته وابنهما الوحيد مراد. لم نعرف في ذلك الزمن اسماً لتلك المرأة الغريبة عن الضيعة. لطالما كانت مْراة موسى أو أمّ مراد".
وتسترجع أرضيّة الدكّان غير المبلّطة، وبابه الكبير، والمَلحمة الملحقة به الواقعة إلى يسار مدخله. العمّ موسى كان قصّاباً كذلك. وتتمنّى لو كان في مقدورها "تحميض تلك الصور" المخزّنة في ذاكرتها. لم تظنّ قبل هذا اليوم أنّ تلك الصور ما زالت محفوظة بـ"جودتها العالية" تلك. لكن، بمجرّد استعادة تفاصيلها، راحت تشعر بخشية عارمة. من المحتمل فقدان تلك الصور أو جودتها على أقلّ تقدير. لا شكّ في أنّ تلك الصور سوف تتلاشى في يوم مع تدهور الذاكرة التي توثّقها، وليس في الأمر مبالغة. كلّما ازداد تعداد أيّامنا هنا، في هذا العالم، فإنّ بعضاً من ذاكرتنا سوف يتلف لا محالة. كيف الحفاظ على تلك الصور؟ نجزم بأنّه من المهمّ تدوين ما خبرناه، غير أنّنا نجد أنفسنا عاجزين. يوميّاتنا الطافحة بالضغوطات التي تختلف مسبّباتها وأشكالها تعوّق الأمر. التدوين يستلزم طاقة، في حين أنّنا ماضون في استنفاد ما نملكه منها شيئاً فشيئاً.
تتوالى الصور فترسم مشاهد زمن بعيد نستعيد من خلالها سيرتنا. نحن نبرع ولا شكّ في صياغة "السيرة الذاتيّة" الخاصة بنا، في الأطر المهنيّة أو عند مشاركتنا في فعاليّات تختلف طبيعتها. سيرتنا التي نستعيدها من خلال تلك الصور، هي "ذاتيّة" كذلك. وإذ يصعب علينا صياغتها، حبّذا لو نفلح في التقاط تلك الصور وتحميضها ومن ثمّ توثيقها. فقدها يسهم في فقدنا، ونحن لا ندرك هول ذلك الفقد.