صُفع في مصر
للمرّة الألف، فيديو لعامل مصري يتعرّض للإهانة، والضرب، والصفع. وللمرّة الألف، الجاني عربي، ومكان الجريمة دولة عربية. لم يعد من المجدي التوقف أمام الدلالات الأخلاقية وحدها. العنصريون في كل مكان، المنحطّون في كل مكان، المرضى والمهاويس والحثالة الذين لا يشعرون بقيمتهم إلا حين يهينون من هم أضعف أو أفقر أو أعوز، في كل مكان، في مصر مثل غيرها، وفي مصر قبل غيرها. وسوء معاملة "السادة" المصريين غيرَهم من المصريين، عمالا، وخدما، وموظفين، وموظفات، وأطفالا، على اختلاف درجاتهم التعليمية والطبقية، هؤلاء الذين دفعتهم حكوماتهم للعمل في ظروفٍ لا تختلف عن العبودية القديمة سوى في المسمّى، هذا السوء ثابت بالأدلة، المطمورة، والشهود المخروسين، والحكايات المريرة، وإنْ لم يثبت بالفيديوهات، لأن كاميرا المحل ملك لصاحب المحل، وكاميرا الموبايل، مثل صاحب الموبايل، تخشى صاحب المحل، وتُصفع وهي ساكتة.
شاهدت الصفعات الثلاث التي نزلت على ذهول وجه المصري الساكت. أهانته، ولم تنجح في إهانة لا مبالاته، فقد جاء بها من بلاده، ولولا أنه هان في مصر، ما سهل الهوان عليه في الكويت، أو غيرها. شاهدتها، وتألمت مثل ملايين المصريين، إلا أن لا مبالاة الشاب التي أزعجت كثيرين ذكّرتني بحكايات أصحابي الذين "لبسوا جيش"، وتعرّضوا للضرب والإهانة، من دون مبرر، وحين حاول أحدهم الاعتراض سجنوه، وحين حاول آخر أن يفهم، أخبره "الصول"، الذي يفتخر بقدرته على صفع المتعلمين وأصحاب الشهادات، أن الجيش تأديب وتهذيب وإصلاح، وأنك لم تأت للتصييف، يا روح أمك، وإذا أردت أن تمر فترة تجنيدك على خير، عليك أن تترك كرامتك على الباب، قبل الدخول، هذا إذا أردت أن تخرج.
لا تختلف الصفعة في الكويت عن صفعاتٍ أخرى، تتخذ أشكالا مختلفة، من أصحاب عمل، وأصحاب مناصب، وأصحاب سلطة، وأصحاب نفوذ، وأصحاب أصحاب نفوذ، يصفعون برواتبهم، وأياديهم، وأرجلهم، وألسنتهم، وأعضائهم الجنسية، في غيابٍ كامل لدولة تحاسب، وفي حضور كامل لدولة تشارك وتشجع وتحرّض وتبرّر وتشرعن وتقنن، ولولا صفعات متكرّرة في مصر، في كل مرحلة عمرية، وكل محطة مهنية أو وظيفية، لآلاف، بل ملايين، من المستعبدين، ما اضطروا للقبول بصفعاتٍ أقل، بشروط عبودية أقل، في بلادٍ، كان من المفترض أنها أقلّ، لكنها لم تعد كذلك، والبركة في الزعماء الملهمين، المنقذين، المفوضين، الذين لا يُسألون عمّ يفعلون، فقد أضاعوا ماء وجوهنا قبل أن يضيّعوا ماء النيل، ويحوّلوه إلى بحيرة إثيوبية، أو بالأحرى صفعة إثيوبية "أخرى" (بضم الهمزة وفتحها)، صفعة على وجه السبعة آلاف سنة.
ترافق شعور الألم بالصفعات على وجه المصري "الغلبان" بتعليقات من مصريين أكثر "غلبًا"، ترفض التعاطف معه، وتعتبره معدوم الكرامة، لأنه لم يدافع عن نفسه، ولا تجد له مبرّرا، أو عذرا، أو وزنا، أو قيمة. هي في تقديري تعليقات ملّ أصحابها دور الضحية، وقرّروا، بدورهم، أن يمارسوا صفعا مجازيا، لعلهم يجدون فيه مُسكّنًا لآلام الصفع الحقيقي الذي يتلقاه ملايين المصريين، يوميا، مع كل خبر عن سجن، أو اعتقال، أو تمديد، أو اختفاء قسري، أو سد نهضة، أو هدم مقابر تاريخية، أو تدمير عمران، في القاهرة القديمة، أو مصر الجديدة، أو كورنيش الإسكندرية. مع كل شهيق نتنفسّه، ثمة صفعة تسبق الزفير، صفعة لا زفير لها، تدخل ولا تخرج، تسكن، وتظل عالقة إلى أن تستدعي بدورها صفعات وصفعات.
لقد تحوّلت صفعات السنوات السبع، من حكم عبد الفتاح السيسي، إلى أغنيات، وأوبريتات، ومسلسلات، وإنجازات، ومكايدات. وتحولت بعض الصفعات قوانين ومواد دستورية، وجرت تسميتها مكافحة الإرهاب، والحرب نيابة عن العالم، وإنقاذ مصر، والقرارات الاقتصادية الجريئة، وغير الشعبوية، والعاصمة الجديدة، من أجل مصر، والقصور الجديدة من أجل مصر، والجوامع، وسط رمال الصحراء التي تكلفت ملايين، من أجل مصر، وبنينا قصورا، وسنبني قصورا، "كمان وكمان"، من أجل مصر. وكل من اعترض على الصفع، أو حاول حماية المصفوعين، جرى اعتباره خائنا، فلماذا نلوم كويتيا يصفع؟