08 نوفمبر 2024
ضرب الوجود العربي والإسلامي في الغرب
أعادت هجمات الأسبوع الماضي، في كل من نيويورك ونيوجرسي ومنيسوتا، تسليط الضوء على ما يصفه مسؤولون أميركيون "حقبة جديدة من الإرهاب"، أي أن الحركات المتطرّفة، كداعش والقاعدة، تشجع أنصارها في الغرب على عدم السفر إلى دول أخرى، مثل سورية وأفغانستان، لمحاربة القوات الغربية، والتركيز بدلاً من ذلك على مهاجمة الغربيين وقتلهم في بلادهم نفسها. مثلا، عُثر في دفتر مذكرات أحمد خان رحمي، الأميركي الأفغاني الأصل، المتهم بتنفيذ تفجيرات السبت الماضي في نيويورك ونيوجرسي، على عبارات مقتبسة من أنور العولقي، أحد زعماء "القاعدة" السابقين في اليمن، والذي قتل في غارة أميركية عام 2011، يقول فيها: "إذا تعذّر السفر فهاجم الكفار، حيثما يعيشون". كما يشير دفتر المذكرات إلى توصياتٍ أخرى مشابهة، أطلقها أبو محمد العدناني، الناطق الرسمي باسم "داعش"، سابقاً، والذي قتل في سورية الشهر الماضي.
هذه التوجيهات لشباب غربي مسلم مردُّها التضييق الكبير الذي تمارسه دول كثيرة على تنظيمات متطرّفة، مثل داعش والقاعدة والشباب وبوكو حرام، وإضعاف قدرتها على التجنيد من خارج مناطق وجودها، كما أنها مرتبطة بتراجع هذه التنظيمات، وانحسارها جغرافياً في ظل الاستهداف الدولي لها. وكان العدناني قد أقرَّ بهذا الأمر من قبل، حين دعا أنصار "داعش" في الغرب، في مايو/ أيار الماضي، إلى تحويل السياسات الغربية التي تضيق على تنظيمه إلى "مصدر للأسف بالنسبة لهم". وخاطب العدناني، حينها، أنصار تنظيمه: إذا كانت الحكومات الأجنبية "قد أغلقت باب الهجرة في وجوهكم"، ويعني الدول الغربية هنا، فذلك ينبغي "أن يفتح باب الجهاد في داخل دولهم". وأضاف "أصغر فعلٍ تقوم به في أرضهم أحب
إلينا من أكبر فعل تقوم به هنا. إنه أكثر إفادة لنا وأكثر إيذاء لهم". إلا أن أخطر ما في دعوة العدناني قوله: "إذا كان أحدكم يتمنى ويكافح، ليصل إلى أراضي الدولة الإسلامية، فإن كل واحد منا يتمنى أن يكون مكانكم ليجعل من الصليبيين عبرةً، في الليل والنهار، وتخويفهم وإرهابهم، حتى يخاف كل جارٍ من جاره"، يقصد الجار المسلم بالطبع.
للأسف، يبدو أن منطق العدناني، والعولقي من قبله، يجد رواجاً كبيراً عند كثيرين من الشباب الغربي المسلم الخاوي، وذلك كما رأينا في هجماتٍ عديدةٍ من قبل في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبلجيكا.. إلخ. وعملياً، وصل الحال اليوم بالمسلمين في الغرب أن تحوّلوا إلى مشتبه بهم، أينما حلّوا وأينما ارتحلوا، وهو الأمر الذي يجد تعبيراتٍ عن نفسه، سواء عبر التنميط والاستهداف بالتمييز العنصري من المؤسسات والأجهزة الأمنية الغربية، أم من خلال التمييز والعنف اللذين يمارسهما بعض الأفراد والتيارات الغربية ضد المسلمين القاطنين بين ظهرانيهم.
وعلى الرغم من أن نسبة من يحملون فكراً متطرفاً بين المسلمين في الغرب ضئيلة، ونسبة من يفكرون بالعنف أو يمارسونه فعلاً أقل من ذلك بكثير، إلا أن هؤلاء نجحوا، إلى حد كبير، في تحقيق أمنية العدناني في أن "يخاف كل جارٍ من جاره" المسلم. المشكلة أنه لا منظّري التيارات المتطرّفة، ولا الذين ينفذون الهجمات في الدول الغربية من الشباب المسلم التائه يجيب على سؤال: وماذا عن مصير المسلمين في الغرب، والذين يعدّون بعشرات الملايين من البشر؟ أبعد من ذلك، يعجز أولئك عن فهم أن مثل تلك الهجمات الإجرامية التي يقومون بها تخدم تياراتٍ يمينية، فكرية وأمنية وعسكرية غربية، ترى فيها هديةً من السماء، لتبرير سياساتها التمييزية والتهميشية وتعزيزها ضد المسلمين في الغرب، والتوسّعية والعدوانية ضد الدول العربية والمسلمة في غَيْرِ مكان، في ظل حالةٍ من الضعف والعجز غير المسبوق الذي تعيشه الأمتان العربية والإسلامية. ينطلق هؤلاء الحمقى من أرضية استدعاء معركة "نهاية التاريخ" الموهومة، وكأن معركة مصيرية كتلك، إن صحت، يمكن الانتصار فيها بعقلياتٍ ضحلة كهذه، وإمكانيات ضئيلة لا تكاد تذكر.
أدرك، كناشط سياسي عربي مسلم، يقيم في الولايات المتحدة، مدى الضرر الذي ألحقه هؤلاء ببرامجنا والتخطيط لمستقبل وجودنا في الغرب. مع كل هجومٍ يقوم به واحد من هؤلاء، فإنه يرجعنا إلى الوراء مراحل. عندما توفي الملاكم الأميركي الأسطورة، محمد علي كلاي، مطلع شهر يونيو/ حزيران الماضي، ارتفعت أسهم الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة بشكل كبير من جرّاء التغطية الإعلامية المباشرة لجنازته. قلت حينها إننا لو أنفقنا عشرات الملايين من الدولارات لتحسين صورتنا لما كانت حققت لنا النجاح الذي حققته جنازة محمد علي رحمه الله. ولكن، لم تكد تمضي أيام، حتى وقع الهجوم على النادي الليلي في أورلاندو/ فلوريدا، والذي ارتكبه مسلم، فانقلب الحال، وقضت بضع رصاصات جبانة على كل الرصيد الذي اكتسبه الإسلام والمسلمون حينها. ولو أن أعداءنا أنفقوا عشرات الملايين من الدولارات لتشويه ديننا وأمتنا لما تمكّنوا من إنجاز بضعة أعشار مما حققه منفذ الهجوم.
باختصار، تلك الهجمات، فضلا عن أنها غير شرعية وتمثل نوعاً من الغدر لمن استأمننا ووثق بنا في بلاده وعلى أرضه، فإنها كذلك كارثية على مستقبل المسلمين في الغرب، وفي العالم أجمع. يقوم عقد العيش في الغرب على المواطنة وحكم القانون، وتنتقص مثل هذه الهجمات من تلك الميزة، وتضعف فرصنا في التأسيس لوجود عربي وإسلامي قوي، لخدمة قضايانا العربية والإسلامية، من داخل المنظومة الغربية نفسها. أما من حيث كارثيتها على شعوبنا ودولنا، فيكفي أن نذكّر بما جلبته هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 على هذه الأمة من كوارث وويلات.
هل يقنع مثل الكلام السابق الذي يظنون أنهم يستدعون الآخرة؟ قطعاً لا، فهم أضحل وأحمق من أن يعقلوه. وللأسف، لسنا كذلك في موقعٍ يمكّننا من تحييدهم، إذ إننا اليوم بين فكّي كماشة: المتطرفون الحمقى بين صفوفنا، ومجانين "نهاية التاريخ" والعدوانية في صفوف الغربيين. أيضاً، ما سبق ليس محاولة لتبرئة بعض الغرب من عدوانٍ كبير يمارسه ضدنا، كعرب ومسلمين، لكن مواجهة مثل هذا العدوان لا يكون باستنزاف أنفسنا بأساليب خاسرة، أخلاقياً ومادياً.
هذه التوجيهات لشباب غربي مسلم مردُّها التضييق الكبير الذي تمارسه دول كثيرة على تنظيمات متطرّفة، مثل داعش والقاعدة والشباب وبوكو حرام، وإضعاف قدرتها على التجنيد من خارج مناطق وجودها، كما أنها مرتبطة بتراجع هذه التنظيمات، وانحسارها جغرافياً في ظل الاستهداف الدولي لها. وكان العدناني قد أقرَّ بهذا الأمر من قبل، حين دعا أنصار "داعش" في الغرب، في مايو/ أيار الماضي، إلى تحويل السياسات الغربية التي تضيق على تنظيمه إلى "مصدر للأسف بالنسبة لهم". وخاطب العدناني، حينها، أنصار تنظيمه: إذا كانت الحكومات الأجنبية "قد أغلقت باب الهجرة في وجوهكم"، ويعني الدول الغربية هنا، فذلك ينبغي "أن يفتح باب الجهاد في داخل دولهم". وأضاف "أصغر فعلٍ تقوم به في أرضهم أحب
للأسف، يبدو أن منطق العدناني، والعولقي من قبله، يجد رواجاً كبيراً عند كثيرين من الشباب الغربي المسلم الخاوي، وذلك كما رأينا في هجماتٍ عديدةٍ من قبل في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبلجيكا.. إلخ. وعملياً، وصل الحال اليوم بالمسلمين في الغرب أن تحوّلوا إلى مشتبه بهم، أينما حلّوا وأينما ارتحلوا، وهو الأمر الذي يجد تعبيراتٍ عن نفسه، سواء عبر التنميط والاستهداف بالتمييز العنصري من المؤسسات والأجهزة الأمنية الغربية، أم من خلال التمييز والعنف اللذين يمارسهما بعض الأفراد والتيارات الغربية ضد المسلمين القاطنين بين ظهرانيهم.
وعلى الرغم من أن نسبة من يحملون فكراً متطرفاً بين المسلمين في الغرب ضئيلة، ونسبة من يفكرون بالعنف أو يمارسونه فعلاً أقل من ذلك بكثير، إلا أن هؤلاء نجحوا، إلى حد كبير، في تحقيق أمنية العدناني في أن "يخاف كل جارٍ من جاره" المسلم. المشكلة أنه لا منظّري التيارات المتطرّفة، ولا الذين ينفذون الهجمات في الدول الغربية من الشباب المسلم التائه يجيب على سؤال: وماذا عن مصير المسلمين في الغرب، والذين يعدّون بعشرات الملايين من البشر؟ أبعد من ذلك، يعجز أولئك عن فهم أن مثل تلك الهجمات الإجرامية التي يقومون بها تخدم تياراتٍ يمينية، فكرية وأمنية وعسكرية غربية، ترى فيها هديةً من السماء، لتبرير سياساتها التمييزية والتهميشية وتعزيزها ضد المسلمين في الغرب، والتوسّعية والعدوانية ضد الدول العربية والمسلمة في غَيْرِ مكان، في ظل حالةٍ من الضعف والعجز غير المسبوق الذي تعيشه الأمتان العربية والإسلامية. ينطلق هؤلاء الحمقى من أرضية استدعاء معركة "نهاية التاريخ" الموهومة، وكأن معركة مصيرية كتلك، إن صحت، يمكن الانتصار فيها بعقلياتٍ ضحلة كهذه، وإمكانيات ضئيلة لا تكاد تذكر.
أدرك، كناشط سياسي عربي مسلم، يقيم في الولايات المتحدة، مدى الضرر الذي ألحقه هؤلاء ببرامجنا والتخطيط لمستقبل وجودنا في الغرب. مع كل هجومٍ يقوم به واحد من هؤلاء، فإنه يرجعنا إلى الوراء مراحل. عندما توفي الملاكم الأميركي الأسطورة، محمد علي كلاي، مطلع شهر يونيو/ حزيران الماضي، ارتفعت أسهم الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة بشكل كبير من جرّاء التغطية الإعلامية المباشرة لجنازته. قلت حينها إننا لو أنفقنا عشرات الملايين من الدولارات لتحسين صورتنا لما كانت حققت لنا النجاح الذي حققته جنازة محمد علي رحمه الله. ولكن، لم تكد تمضي أيام، حتى وقع الهجوم على النادي الليلي في أورلاندو/ فلوريدا، والذي ارتكبه مسلم، فانقلب الحال، وقضت بضع رصاصات جبانة على كل الرصيد الذي اكتسبه الإسلام والمسلمون حينها. ولو أن أعداءنا أنفقوا عشرات الملايين من الدولارات لتشويه ديننا وأمتنا لما تمكّنوا من إنجاز بضعة أعشار مما حققه منفذ الهجوم.
باختصار، تلك الهجمات، فضلا عن أنها غير شرعية وتمثل نوعاً من الغدر لمن استأمننا ووثق بنا في بلاده وعلى أرضه، فإنها كذلك كارثية على مستقبل المسلمين في الغرب، وفي العالم أجمع. يقوم عقد العيش في الغرب على المواطنة وحكم القانون، وتنتقص مثل هذه الهجمات من تلك الميزة، وتضعف فرصنا في التأسيس لوجود عربي وإسلامي قوي، لخدمة قضايانا العربية والإسلامية، من داخل المنظومة الغربية نفسها. أما من حيث كارثيتها على شعوبنا ودولنا، فيكفي أن نذكّر بما جلبته هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 على هذه الأمة من كوارث وويلات.
هل يقنع مثل الكلام السابق الذي يظنون أنهم يستدعون الآخرة؟ قطعاً لا، فهم أضحل وأحمق من أن يعقلوه. وللأسف، لسنا كذلك في موقعٍ يمكّننا من تحييدهم، إذ إننا اليوم بين فكّي كماشة: المتطرفون الحمقى بين صفوفنا، ومجانين "نهاية التاريخ" والعدوانية في صفوف الغربيين. أيضاً، ما سبق ليس محاولة لتبرئة بعض الغرب من عدوانٍ كبير يمارسه ضدنا، كعرب ومسلمين، لكن مواجهة مثل هذا العدوان لا يكون باستنزاف أنفسنا بأساليب خاسرة، أخلاقياً ومادياً.