01 نوفمبر 2024
ضعف المركز وإغراءات الانفصال
كيف آلت الأوضاع في العراق إلى هذا المَآل الذي أربكه، وأربك الإقليم؟ والمنطقة في وقتٍ وظرفٍ أبعَدُ ما تكون فيه عن احتمال مزيدٍ من الصراعات المفتوحة والمُستنزِفة؟ ولم يكن هذا المآلُ مفاجئاً، فقد كان إقليم كردستان يبتعد عن بغداد، وينفصل تدريجيًّا، عمليًّا، وتعبويًّا، على الصعيد الداخلي، ودوليًّا. وكان تشكيل العراق الجديد يُرشِّح إلى هذا المصير طائفيَّا، ومُحاصصيًّا.
صحيحٌ أنَّ الانفصال ليس على أساسٍ طائفيّ، وصحيحٌّ، أيضاً، أنَّ السعي إليه ليس وليدَ هذه المرحلة، لكنَّ التشكُّل الجديد لكيان العراق عمِل على إنضاج الانفصال، وقوّى رغباتِه، بقدر ما ضعفتْ عواملُ الجذب إلى المركز، ولا نقول إنَّ قوة الجذب كانت، في عهد نظام صدام حسين، أقوى طبيعيا، لكن الوطنية العراقية، على الأقل كانت أقوى، والعراق كان أقوى، وطنا فاعلا، وهُويَّة.
كان للطبقة السياسية العراقية التي تسلَّمت مقاديرَ العراق ومقدَّراتِه الأثرُ السلبيُّ المُنفِّر، للأسف، وقلل ما اشتُهر عنها من فسادٍ ماليٍّ مستشرٍ الثقة فيها، وفي جدارتها بالقيادة، ولم يفرض أحدٌ منها نفسَه رجل دولة، تلتفُّ حولَه المُكوِّناتُ العراقيَّة، على اختلافها، وتجد معه مظلَّة العراق الجامعة مصلحة كبرى، تكفل لها مصالحها الداخلية المحلية. فلم تكن، يوما، الشعوبُ التي نجحتْ في التوحُّد، عديمة الفوارق، ولكن قوَّة القادة الكبار كانت، بالإضافة إلى التشكُّل اللغوي والثقافي، واستشعار العدالة، عاملا فاعلا. فلو لمَس المواطن في العراق عدالة اقتصادية، ودولة قادرة على التعافي والتعديل، وأجهزةً قضائية قادرةً على بَتْر الانحرافات والامتيازات والمحاصصات، لما مال قسمٌ من المُؤيِّدين للاستقلال إلى نفض أيديهم من المركز، لا سيما أن السُّخْط لم يكن حِكْرا على مُكوِّن واحد، أو على منطقةٍ معيَّنة، فقد شهدت مناطقُ الأنبار،
والمناطق ذاتُ الأغلبيَّة السُّنيَّة، في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق، نور المالكي، أواخر 2012 إلى 2013 ساحاتِ اعتصامٍ؛ للتظلُّم، من العَسَف، وسوء توظيف (الإرهاب)؛ من أجل مزيدٍ من الإقصاء والتهميش، كما أفضى غضبُ أنصار الزعيم الشيعيّ، مقتدى الصدر، إلى احتجاجاتٍ ليست هيِّنة، على الفساد وسوء الإدارة، والطائفية السياسية، بدايات العام الجاري كادت تصل إلى حرب نزاعاتٍ مسلَّحة بينهم، وبينهم وبين قوَّات الأمن العراقية.
ولنا أن نلحظ ظروف الاستفتاء الذي يُمهِّد لانفصال إقليم كردستان؛ فثمَّة رفض دولي، وتحذيرات إقليمية جِديَّة، وحتى في الإقليم نفسه، لا يمكن تجاهل نسبة الرفض، كما في مدينتي السليمانيَّة وكركوك، وحتى الوفد الكردي الذي فاوض بغداد ظلَّ الانقسامُ حول إمكانية تأجيل الاستفتاء قائما بين أعضائه حتى اللحظات الأخيرة. ومع ذلك، تغلب الإصرار، ولا نعلم كيف يمكن أن ينشأ كيان طبيعيٌّ، أو قريب من الطبيعية، في هذا الجوّ المعادي له، من أوَّله؟! اللهمَّ إلا إذا كان التعويل، أو التأميل، على مواقف دولية، أميركية أو سواها، قد تغدو داعمة، إذا فرض هذا الانفصال نفسه، أو قارب ذلك.
علما أن إسرائيل، بالإضافة إلى الإمارات عربيا (!)، تدعم الانفصال علنا، لكنها تبقى دخيلةَ التحقُّق في منطقة الصراع، وطارئةً في التأثير، وهي تُضعِف هذا الكيان العتيد، أكثر ممَّا تُقوِّيه، بالمعنىيين، الوجودي والوجداني، على الأقل، لدى شعوب المنطقة، ولا سيّما إذا قبل الإقليم بالذهاب بعيدا في الاقتراب من دولةٍ لا تزال في نظر شعوب المنطقة محتلة ومعتدية، ومتعالية على حقوق الفلسطينيين والعرب، حدّ الاستهتار والاستفزاز اليوميِّ العميق.
ولو كان لمسألة الانفصال أن تخضع لمقياس الكثرة والقلة، كم يُقرِّب؟ وكم يُباعِد؟ فإننا لا نعدم ما يُقرِّب، من روابط مشتركة، حضارية وجدانية تاريخية وثقافية باقية، لا تضمحلُّ في سنواتٍ، بل في عقودٍ، ولا تلغيها تعسُّفاتُ السياسة، وفساد السياسيين؛ فكان ممكنا على هذه الأرضيّة أن تُسْتَبقى الصِّلات، ولو على شكل اتَّحاد فيدرالي.
وإذا جاز لنا أن نقارب، مع أن القياس السياسي ليس سهل التحقُّق، إذ لكل واقع ظروفُه
ومحدِّداتُه ومتغيِّراتُه، فإن السودان أيضا أخفق في الحفاظ على عوامل جذب كافية، في عهد الرئيس عمر البشير، من دون إنكار الدعم الدولي لانفصال الجنوب، ذاك الجنوب الذي أخفق هو أيضا بدوره في التحقّق الطبيعي، بل دخل في حربٍ أهلية بلبلت الأمن، وقتلت الألوف، وشرّدت ما يقارب 1.5مليون إنسان، وحوّلتهم لاجئين جائعين، أو مُجوَّعين، فضلا عن الجرائم المُروِّعة من اغتصاب واختطاف ونهب؛ بسبب النزاعات العِرْقيَّة والسُّلطوية التي تفاقمت بعد الانفصال، ولم تفلح التدخُّلات الدولية في لَأْم الصَّدْع، أو تأهيل الجنوب؛ لكي يكون دولة حقيقيَّة.
وفي الساحة الكردية أيضا خلافات ونزاعات قديمة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، ظهرت أخيرا كذلك، في الموقف من الاستفتاء، إذ مال الأخير إلى الموافقة على تأجيل الاستفتاء؛ لتجنُّب الأزمة السياسية والقبول بالمبادرات الدولية. فمِنْ شأن النموذج السياسيّ الناجح أن يجذب إليه المختلفين، ويقرّب المتباعدين، لكن المركب الغارق لا يغري بالبقاء، وإذا كان خطر "داعش" قد بدأ ينحسر عن العراق والمنطقة، فإنّ بغداد، بالإضافة إلى أربيل، بحاجة ماسّة، الآن، إلى أكبر درجات المسؤولية السياسية، وبعد النظر الإستراتيجي، ليس فقط لاستبقاء الروابط مع إقليم كردستان، ولكن أيضا لحفظ سائر المُكوّنات، ولحفظ العراق.
صحيحٌ أنَّ الانفصال ليس على أساسٍ طائفيّ، وصحيحٌّ، أيضاً، أنَّ السعي إليه ليس وليدَ هذه المرحلة، لكنَّ التشكُّل الجديد لكيان العراق عمِل على إنضاج الانفصال، وقوّى رغباتِه، بقدر ما ضعفتْ عواملُ الجذب إلى المركز، ولا نقول إنَّ قوة الجذب كانت، في عهد نظام صدام حسين، أقوى طبيعيا، لكن الوطنية العراقية، على الأقل كانت أقوى، والعراق كان أقوى، وطنا فاعلا، وهُويَّة.
كان للطبقة السياسية العراقية التي تسلَّمت مقاديرَ العراق ومقدَّراتِه الأثرُ السلبيُّ المُنفِّر، للأسف، وقلل ما اشتُهر عنها من فسادٍ ماليٍّ مستشرٍ الثقة فيها، وفي جدارتها بالقيادة، ولم يفرض أحدٌ منها نفسَه رجل دولة، تلتفُّ حولَه المُكوِّناتُ العراقيَّة، على اختلافها، وتجد معه مظلَّة العراق الجامعة مصلحة كبرى، تكفل لها مصالحها الداخلية المحلية. فلم تكن، يوما، الشعوبُ التي نجحتْ في التوحُّد، عديمة الفوارق، ولكن قوَّة القادة الكبار كانت، بالإضافة إلى التشكُّل اللغوي والثقافي، واستشعار العدالة، عاملا فاعلا. فلو لمَس المواطن في العراق عدالة اقتصادية، ودولة قادرة على التعافي والتعديل، وأجهزةً قضائية قادرةً على بَتْر الانحرافات والامتيازات والمحاصصات، لما مال قسمٌ من المُؤيِّدين للاستقلال إلى نفض أيديهم من المركز، لا سيما أن السُّخْط لم يكن حِكْرا على مُكوِّن واحد، أو على منطقةٍ معيَّنة، فقد شهدت مناطقُ الأنبار،
ولنا أن نلحظ ظروف الاستفتاء الذي يُمهِّد لانفصال إقليم كردستان؛ فثمَّة رفض دولي، وتحذيرات إقليمية جِديَّة، وحتى في الإقليم نفسه، لا يمكن تجاهل نسبة الرفض، كما في مدينتي السليمانيَّة وكركوك، وحتى الوفد الكردي الذي فاوض بغداد ظلَّ الانقسامُ حول إمكانية تأجيل الاستفتاء قائما بين أعضائه حتى اللحظات الأخيرة. ومع ذلك، تغلب الإصرار، ولا نعلم كيف يمكن أن ينشأ كيان طبيعيٌّ، أو قريب من الطبيعية، في هذا الجوّ المعادي له، من أوَّله؟! اللهمَّ إلا إذا كان التعويل، أو التأميل، على مواقف دولية، أميركية أو سواها، قد تغدو داعمة، إذا فرض هذا الانفصال نفسه، أو قارب ذلك.
علما أن إسرائيل، بالإضافة إلى الإمارات عربيا (!)، تدعم الانفصال علنا، لكنها تبقى دخيلةَ التحقُّق في منطقة الصراع، وطارئةً في التأثير، وهي تُضعِف هذا الكيان العتيد، أكثر ممَّا تُقوِّيه، بالمعنىيين، الوجودي والوجداني، على الأقل، لدى شعوب المنطقة، ولا سيّما إذا قبل الإقليم بالذهاب بعيدا في الاقتراب من دولةٍ لا تزال في نظر شعوب المنطقة محتلة ومعتدية، ومتعالية على حقوق الفلسطينيين والعرب، حدّ الاستهتار والاستفزاز اليوميِّ العميق.
ولو كان لمسألة الانفصال أن تخضع لمقياس الكثرة والقلة، كم يُقرِّب؟ وكم يُباعِد؟ فإننا لا نعدم ما يُقرِّب، من روابط مشتركة، حضارية وجدانية تاريخية وثقافية باقية، لا تضمحلُّ في سنواتٍ، بل في عقودٍ، ولا تلغيها تعسُّفاتُ السياسة، وفساد السياسيين؛ فكان ممكنا على هذه الأرضيّة أن تُسْتَبقى الصِّلات، ولو على شكل اتَّحاد فيدرالي.
وإذا جاز لنا أن نقارب، مع أن القياس السياسي ليس سهل التحقُّق، إذ لكل واقع ظروفُه
وفي الساحة الكردية أيضا خلافات ونزاعات قديمة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، ظهرت أخيرا كذلك، في الموقف من الاستفتاء، إذ مال الأخير إلى الموافقة على تأجيل الاستفتاء؛ لتجنُّب الأزمة السياسية والقبول بالمبادرات الدولية. فمِنْ شأن النموذج السياسيّ الناجح أن يجذب إليه المختلفين، ويقرّب المتباعدين، لكن المركب الغارق لا يغري بالبقاء، وإذا كان خطر "داعش" قد بدأ ينحسر عن العراق والمنطقة، فإنّ بغداد، بالإضافة إلى أربيل، بحاجة ماسّة، الآن، إلى أكبر درجات المسؤولية السياسية، وبعد النظر الإستراتيجي، ليس فقط لاستبقاء الروابط مع إقليم كردستان، ولكن أيضا لحفظ سائر المُكوّنات، ولحفظ العراق.
دلالات
مقالات أخرى
01 أكتوبر 2024
15 سبتمبر 2024
27 اغسطس 2024