في إطلالة سريعة على المشهد المعماري في أكثر من مدينة عربية، تتجلّى مفارقة لا نحسب أنها تغيب عن النظر، بل قد تكون في بؤرة تركيزه، إلا أنه يمرُّ عليها كما تمرّ النظرة العمياء. هذه المفارقة تتجلّى في الوعي قبل أن تتجلّى على الأرض.
على الأرض عمائر للأثرياء من جانب، وعمائر للفقراء من جانب آخر، ولكن الفرق أن عمائر الأثرياء يكرّس لها رأس المال واليد العاملة ومواد البناء وخبرات وفنون مهندسين يتفنون في تصميمها، بينما لا تحظى عمائر الفقراء - هذا إن فكّرت بها سلطة أو جمعية تعاونية - إلا بأقلّ قدر من الأموال والأيدي العاملة، ويتهرّب المعماريون والمهندسون من الاهتمام بها، فتظهر هنا وهناك بتصاميم بائسة أشبه بصناديق وعلب تسمى أحياناً بيوت ذوي الدخل المحدود في بعض البلدان.
ويضطر الفقراء في البلاد التي لا تضع على جدول أعمالها حتى هذه الصناديق والعلب إلى إقامة ما تسمّى العشوائيات على أراضي الدولة بلا رخص قانونية، أو يقومون بإقامة أعشاش من القصب والطين تطوّق مدناً يبدو أنها مخصّصة للأثرياء فقط.
وحتى حين يكرّس مهندس معماري تجربته وفكره ويصمّم ويبني مدناً، أو قرى على الأقل، ذات طابع إنساني لفقراء الأرياف، مثلما فعل حسن فتحي (1900 - 1989)، يقف منفرداً، كما تقف عمائره الشهيرة، مثل قرية القرنة، شاهدة على معمار إنساني ذي جماليات فريدة يتعرّض للبلى والفناء من دون ترميم.
لا أحد يحاول تعميم تجربة معماري الفقراء حسن فتحي، بل تمجّد الصحافة السائرة، ويمجّد مثقفّوها عبقرية معماريي ومهندسي عمائر الأثرياء في أكثر من مناسبة، ولا يتلبثون عند عمائر الفقراء إلا في مناسبات عابرة منتقدين أو ساخرين، فيضيفون إلى مفارقة ظاهرة للعيان مفارقة ثقافية لا يبصرها وعي ولا تلتقطها عدسة تصوير أو تحقيق. هذا شرخ في ثقافة تتجاهل أن للعمران البشري أخلاقيات أيضاً، وأن الأخلاقيات ليست منحصرة في السلوك البشري وحده.
نعرف بالطبع لماذا ينصرف هم مهندس أو معماري إلى صناعة عمائر "جميلة" بلا أخلاق، مثل هذه المخصّصة لمطارات وملاعب ومحطّات قطارات ومساكن للأثرياء لا تطأها قدم الأغلبية الفقيرة، ولا حتى في أحلامها، فالمجد والثراء لم يعودا منذ زمن طويل سرج سابح، ولا عاد خير رفيق في الزمان كتاب، بل أصبح لحاقاً بمن يدفع أكثر، ومن يزهو المعماريون في رحابه ويجمعون بفضله وفضل نزعاته الملايين. وهل يستطيع الفقراء دفع الملايين؟ إنهم يحرمون في هذه الأيام حتى من الفنانين والشعراء والروائيين، لأن هؤلاء، كما كانوا في الماضي، من نصيب من يعطي ويدفع ويمنح.
يكون المعمار أخلاقياً حين يكون إنسانياً، أي مخلصاً لوظيفته الأصلية منذ عصر الكهوف وحتى عصر الفضاء؛ مأوى ومسكناً للإنسان. ويكون لا أخلاقياً حين تقتصر وظيفته على خدمة المجرّدات؛ رأس المال وأصحابه وتلميع مكانة هذا المعماري أو ذاك، وإبداء الإعجاب بقدراته على التخيّل؛ بصناعة مبنى معلّق أو طائر نزولاً عن رغبة متخم بما كدّس من أموال.
الفقراء محرومون من المهندس والمعماري، ومخطّط الطرقات والمدن، ومن كل ما هو جميل في هذا العالم... ويُحرمون قبل كل شيء من المأوى الإنساني، كأنهم مشرّدون على أطراف العالم لا مأوى لهم إلا المقابر أو الأعشاش والعشوائيات البدائية، كما كان الحال منذ زمن طويل، وحتى أزمان لاحقة.