نلتقي كل يوم تقريباً. فهي لا تبارح مكانها إلا نادراً. لم أعرف لها اسماً ولا مسقط رأس. هي ببساطة الطفلة المحجبة ذات الوجه الرقيق. هكذا أحفظها. ومع أن وجهها يحمل براءة الكثير ممن هم في سنها، لكن في عينيها نظرة عميقة تجعلها تبدو أكبر منهم.
تقف عند شارة برج الغزال الشهيرة، في قلب بيروت، مع مجموعة أخرى من المنكوبين الذين يشبهونها وقد اضطهدتهم الأيام ودفعت بهم إلى الشارع رغماً عنهم. فمن بينهم من خسر رجليه. وهناك من خسر عائلته. وهناك من خسر رزقه. وهناك من خسر وطنه. أما الطفلة، فقد خسرت أكثر بكثير مما قد يتحمّله عمرها الطريّ. خسرت مدرسة، ورفاقاً، وابتسامة، وطفولة تستحقها.
ترتبط حركتها بألوان شارة السير. كلما أضاءت بالأحمر رأيتها تقترب من السيارات العابرة مكتفية بالتأمل في وجوه أصحابها حاملة بضاعتها المتواضعة: علب المحارم. وكلما أضاءت بالأخضر تراجعت إلى الوراء. لا تقترب إلاّ لمن يشير إليها معبّراً عن اهتمام بما تحمل.
في كل مرّة أتوقف بالسيارة عند الشارة نفسها أروح أتأمل وجهها الممتلئ بأسرار لا تنتهي. أسرار لا تعرفها إلا صاحبتها الصغيرة الخجولة. لكني في كل مرّة أتردّد بالشراء منها. أغرق بالـ"فرجة" متناسياً كل شيء آخر، بما في ذلك شارة السير. فلا أستيقظ من هذه اللحظة إلاّ حين يعلو زعيق زمامير السيارات من خلفي منبّهاً إيّاي إلى الشارة التي انقلبت خضراء.
وقد قرّرتُ قبل أيام أن أكسر جدار الصمت هذا بيني وبينها، وأن أخرج من إرباكي لأشتري منها. ولم تكن المساعدة هدفي الأول من ذلك، بل سبر بعض ما تحمله هذه الصغيرة التي لطالما ظننت أن في وجهها الكثير من وجوه الأطفال الذين يحيطونني. وقد كانوا يحضرون فوراً كلما نظرت في وجهها.
شعَرَت بأنني سأشتري منها، فاقتربت. لم تتحدث ولم أتحدث. نظرنا إلى بعضنا فقط. وددت أن أسألها عن أشياء كثيرة لكنني لم أتمكن من ذلك. لم أعرف من أين أبدأ فاكتفيت بالصمت. وعندما حاولت الامتناع عن أخذ علبة المحارم منها، بعدما أعطيتها النقود، بدا كأنني أهنتها. رمت العلبة في المقعد الخلفي بعدما قالت لي ما معناه إنها بائعة وليس أي شيء آخر. قصدت أن تشرح لي أنها ليست متسوّلة. فزادت من إرباكي، أنا الذي لم أتوقّع هذا التصرّف منها.
بعد ذلك علا صوت الزمامير من جديد، كانت الشارة قد عادت خضراء. لكن صمتها في تلك اللحظة كان أعلى وأشد قسوة من الزمامير مجتمعة.