عالم أزرق

04 يوليو 2018
+ الخط -
تمنَّعتُ عنه سنوات، معتقدةً أنني أستطيع أن أُنجز عملي الأدبي والصحافي بدونه، حتى باتت الحاجة إليه ملحَّة؛ لأن تواصلي مع زملاء الهوى والمهنة من الكتَّاب والصحافيين أصبح يستغرق وقتاً طويلاً، وأنا أستخدم وسيلةَ تواصُلٍ أصبحت قديمةً في نظرهم، وهي البريد الإلكتروني. وصرَّح لي أكثر من زميل، وأكثر من زميلة، أنهم لا يتفحّصون البريد الإلكتروني، على مدار الوقت؛ لأن العمل والتواصل يجري عن طريق موقع فيسبوك. وهكذا دخلتُ هذا العالم الأزرق، والذي سبقني إليه أولادي بالطبع؛ لأنهم الجيل الجديد الذي ينظر لي دقَّةً قديمة، وتحوَّلتُ إلى تمثالٍ صامت في البيت مثلهم، بعد أن كنتُ أشكو من بُعْدِهم عنِّي، ومن تأخُّرهم في الردِّ على طلباتي، وتباعدتْ لقاءاتُنا العائلية.
في مقابل ذلك، أصبح إنجاز عملي يتمُّ في وقت أسرع؛ لأن الزملاء الذين أشرتُ إليهم يوجدون على مدار الساعة، على موقع التواصل الاجتماعي، ويجيبون على أسئلتي واستفساراتي، وبدأت علاقاتي في هذا العالم تتسع، حتى أصبح العالم الخارجي لا يعني لي شيئاً أكثر من مكانٍ للتنقُّل، وقضاء حاجيَّات بسيطة، فهذا العالم منحني كلَّ شيء، حتى الفضفضة.
افتقدتني جارةٌ تربطني بها صلة قرابة، من بعيد، وصِرنا نلتقي قليلاً، وتباعدتْ مكالماتُنا الهاتفية؛ لأنني أصبحت أتواصل مع صديقاتٍ من شتَّى أنحاء العالم، ويُلَبِّين كلَّ ما أحتاجه، فحين أحتاج صديقةً تعمل في مجال عملي، أجد العشرات. وحين أبحث عن طبَّاخة ماهرة تدلي لي بوصفة جديدة، أجد كثيرات، وحين تعترضني مشكلة، أكتب منشوراً، وتنهال عليَّ النصائح، من كلِّ حدَبٍ وصوب.
عالم "السوشيال ميديا" الذي احتفل رُوَّادُه بيومه العالمي، أخيرا، وقد جاء تخصيص ذلك اليوم بناء على دعوة من المُدوِّنة ماشابل، في العام 2017 ، هذا العالَم الذي طرح روَّاده سؤالاً هذا العام، في يومه المتفق عليه، 30 يونيو من كل عام، عمَّا أضافه لك، وما أخذه منك. وفي الحقيقة، وبمنتهى الصراحة، إنه يذكِّرني بتشبيه أبي، رحمه الله، عن التلفزيون، والذي كان أعظمَ اختراعات طفولتنا، بأنه سلاحٌ ذو حدَّين، لكن الحدَّ الضارَّ أكثر تأثيراً؛ لأنه قتل جمال حياتنا، وبساطتها السابقة، ودفن إلى الأبد براءتنا.
إنه عالمٌ زائفٌ خُدِعت منه، ألفَ مرَّة. وفي كلِّ مرَّة، أعود وآثارُ الفأس في روحي، وفي قلبي. عالم يطعنك، وهو يبتسم، وأنيابُه تقطر دماً وسُمًّاً. وعلى الرغم من ذلك، هو يدَّعي أنه يخاف عليك، ويطبطب على ظهرك، ويربِّت على وجنتك. ولْنَسأل كلَّ واحد فينا: كم مرّة غاب عن الشاشة الزرقاء، ولم يفتقد غيابه أحد، وهو يعتقد أن العالم الأزرق أصبح رمادياً، أو أسود من القلق، والحزن على غيابه.
لمستُ الخديعة، وسمعتُ عنها، قبل ذلك، وسمعتُ عن تبدُّل الناس حولنا، حتى تبدَّلتُ أنا، وتبدَّلتَ أنت، أصبحنا نهتمُّ بأنفسنا، وبما يُرضينا. وحين نُخدَع في الواقع نهرع إلى العالم الأزرق. وحين نُخدَع في العالم الأزرق لا نجد الواقع. وفي النهاية، لم يضف لإنسانيتنا سوى الدموع الزائفة، والحزن المؤقَّت، ومشاعرنا اللحظية التي نعبِّر عنها بكبسة زرّ، من الصور والتعبيرات، حتى صدَّقنا أنفسنا، أننا لا نزال نحمل صفات الآدمية، وصدَّقَنا الآخرون، بأننا لا ننساهم، ونتفاعل معهم.
موجعٌ أن نكتشف الحقيقة التي لا رجعة عنها، ومؤلمٌ لي أنني حاولت أن أعود، ولم أستطع، وأنني مشَّطتُ بريدي الإلكتروني؛ بحثاً عن كلمات رسائلهم، فلم أجدها؛ لأنهم استبدلوا بها الرُّسومَ والحركات، مضحكةً كانت أو مبكية.
ذهبت رائحة الحبر، وتلاشى صدق الرسائل، وجلسات السَّمَر لم تعد تُعْقَد، والغربة انتشرت حولنا، وتسرَّبت إلى أعماقنا، وأصبحنا مُسوخًا، ونحن ننسخ ونلصق، ونقلِّد وننقل، من دون تفكير. ولم نعد نعرف أنفسنا، ونحن ندلي بدلائنا في آبار آسنة الماء. ولم يعد يهمُّنا سوى المظاهر، وما نريد أن نظهره، والخراب يُعشِّش في بيوتنا، ونفوسنا، مثل عائلةِ فقيدٍ عزيزٍ تركَه أهلُه في العراء، واشتدَّ الخلاف بينهم، على مراسم العزاء؛ حتى نهشت جسدَه الضباع.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.