"لقد أصبحتُ، بعد عناء طويل، شاعراً شعبياً، وتلك هي جائزتي الكبرى"، هكذا كتب شاعر تشيلي الأشهر بابلو نيرودا في مذكّراته، مختصراً بذلك كلاماً كثيراً عن علاقة الشعر والشاعر بالناس والسلطة.
يندر أن تلمس في مقاهي المثقفين بالقاهرة اهتماماً بـ"شعبيّة القصيدة"، بل ولربما نظر بعضهم إليك شزراً وأنت تسأل عن ذلك. ولن يختلف الحال كثيراً في تلك الصالونات التي شادتها ـ على عينها ـ الأنظمة السياسية المتعاقبة، فاستحالت حظائر تدجين لكثير من المثقفين، كما أشار أحد وزراء ثقافة حسني مبارك يوماً.
وإنْ تعذّر على شاعر، مثل عبد الرحمن يوسف، أن يجد كرسياً له على إحدى تلك الطاولات، فإنه بالتأكيد، ومنذ بدأ شقّ طريقه في العمل السياسي والإبداعي معاً عام 1992 وحتّى ثورة 25 يناير، لن يعدم القدرة على اجتراح مكان لنفسه بين شعراء "الهجاء السياسي" العرب.
بعد تسعة دواوين، منها: "في صحة الوطن"، و"على المكشوف"، و"مسبحة الرئيس"، ومذكّراته في الثورة "يوميات ثورة الصبّار"؛ يأتي هذه المرة، مع ديوان "على راسها بطحة"، الصادر حديثاً عن دار "دوّن" بالقاهرة في مئة وسبع صفحات، عبد الرحمن يوسف ليكتب الشعر بالعاميّة المصريّة أيضاً. ولعله لم يتوسّع في الكتابة بالعاميّة إلا بعد الثورة لأسباب قد تحيلنا إلى مقولة بابلو نيرودا، التي افتتحنا بها الحديث، وإنْ كان نيرودا يقصد معنى أوسع غير متعلق بـ"الشعر الشعبي" كما يُفهم في مصر.
يقول ابن منظور في معجم لسان العرب: "البطْحُ من البَسْط، وبطَحهُ على وجهه، يبطُحُهُ بطحاً؛ أي ألقاه على وجهه فانبطح"، أما في اللهجة العاميّة المصريّة، فيستعمل المصريون كلمة "بطحة" للإشارة إلى الجُرح أو الأثر الذي يتركه الحجَر الذي ضربَ رأسَ أحدٍ ما، والتعبير كلّه يحيل إلى مثل شعبي مصري شهير: "اللي على راسه بطحة.. بيحسّس عليها"، ويعني أنّ ليس على المرء أن يأخذ الهجاء دائماً على محمل شخصي، ما لم يكن على يقين بأنّ ما قيل ينطبق عليه أصلاً، فكأنه بذلك يتحسّس أثر "الجرح" أو "العيب" الذي هو فيه.
عُرِف عبد الرحمن يوسف في السنوات الأخيرة قبل الثورة في مصر مع انتشار قصائده التي هجى فيها "رأس النظام" الذي أسقطه المصريون في ما بعد. وإنْ كان يُصرّ دائماً على أنّ قصائده قابلةٌ للقسمة على جميع الطغاة.
وبعد "انبطاح" رأس النظام في "ثورة يناير"، تكشّف للثوريين ـ ومنهم الشاعر ـ أنّ هناك جسداً ضخماً لمؤسسات أكثر تعقيداً من الرأس الذي انبطح. فانتقل "يوسف" من مرحلة هجاء الديكتاتور الفرد، إلى مرحلة هجاء المنظومة الديكتاتورية الحالية. ومع توسّع قاعدة المعارضة، توسّعت أيضاً ـ بوعي من الشاعر أو مصادفةً ـ قاعدة متلقّيه، بعد توجّهه إلى الكتابة بالعاميّة المفعمة أيضاً بخيال شعبي مصري خالص.
يفتتح "يوسف" الحديث معك بالأمثال الشعبية، التي يعرف من قرأ "يوميات ثورة الصبار" أنّ لُبّ الشاعر مأخوذٌ بها، ليحكي بإيقاع دافئ وقوافٍ غير متكلّفة، يستلطفها المصريون في كلامهم العادي، كل ما يريد أن يحكيه:
"والظلم فاضْ..
هات طوبة ياضْ..
داخلين علينا البلطجية طوال عراضْ..
راكبين جمال شبه القراضْ..
هات طوبة ياضْ..
حصلّني دغري عند عب منعم رياضْ...".
إن كان ثمّة موضوع عام يتحدث عنه ديوان "على راسها بطحة"، فهو بدون شك "الأمل". وليست مصادفةً أن تحمل قصيدتان من قصائد الديوان الأربع عشرة عنوانَي "أمل" و"أمل مطلق"، على الرغم من أنّ بعضاً ممّن يحللون المشهد المصري بالورقة والقلم قد لا يرون أية بارقة أمل في الصورة.
لكن الشعر فنّ له حسابات أخرى. وسبق ابن رشيق القيرواني إلى القول في كتابه الشهير "العمدة": "إنمّا سُمّي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيرُه". ولكأننا هنا بالشاعر يستبطن مقولة ابن رشيق وهو يقول في مقدمة هذا الديوان: "لقد كانت صرخةُ الشعر سبّاقة دائماً قبل كل خير، وعين الشاعر ترى ما هو آتٍ وإن بدا بعيداً. وشرُّ ما تُبتلى بهم أيّ أمة مجموعة من الشعراء الذين أعماهم اليأس، أو أغشاهم الأمر الواقع، أو ربطهم الخوف بأغلالٍ من ذل".
وفي الديوان أيضاً قصيدة بعنوان "الحزب الوثني الديمقراطي" التي كانت أغنية انتشرت بين الشباب المصري قبل الثورة لهجائها "الحزب الوطني" الحاكم سابقاً، ومجموعة من القصائد الأخرى التي كُتبت بعد الثورة وقبلها، وتبدو جميعاً كأنها في منظومة واحدة. وثمّة رابط واحد يجمع هذه القصائد هو النظر إلى الأمام منذ مرحلة مبكرة جداً وترقّب شيء كبير.
ربما كانت الثورة محطة من محطات الديوان، لكنها لم تكن منتهاه. وإنْ صدق ابن رشيق القيرواني في قوله إنّ الشاعر يشعر فعلاً بما لا يشعر به غيره، فإنّ ديوان "على راسها بطحة" يحثّ مصر والمصريين على الاستبشار بأمل قادم، وإن لم تسعفهم عيونهم المفتوحة اليوم على رؤيته كما يراه عبد الرحمن يوسف.