يرتبط اسم المؤلف المسرحي عبد الكريم برشيد بنظرية "الاحتفالية" في المسرح العربي، فقد انخرط في هذا المشروع منذ وصوله إلى أرض المسرح مطلع السبعينيات، مؤلّفاً ومخرجاً ومنظّراً، وعكف على مدار عقود على تطوير فكره المسرحي وإضافة تصورات ورؤى جديدة لأبي الفنون في العالم العربي. فبرشيد ينظر إلى المسرح، مستلهماً مقولة جان جاك روسو، "الاحتفال بالمسرح"، بوصفه احتفالاً بالذاكرة الشعبية وبحثاً في التراث الإنساني.
برشيد (1943)، الذي يحمل دبلوماً في المسرح من جامعة "مونبوليي" الفرنسية، ودكتوراه في المجال ذاته من الجامعة المغربية، يعتبر أحد أغزر الكتّاب المغاربة والعرب إنتاجاً في حقل المسرح، فقد أصدر نحو ستين كتاباً في الإبداع والبحث، منها عدد من النصوص المسرحية: "ليالي المتنبي"، "ابن رشد بالأبيض والأسود"، "حكاية قرية اسمها الدنيا"، "اسمع يا عبد السميع"، "مرافعات الولد الفصيح"؛ إلى جانب كتب نقدية ذات طابع تنظيري، مثل "حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي"، "الاحتفالية: مواقف ومواقف مضادة"، "الاحتفالية في أفق التسعينات"،"الحكواتي الأخير"، "المؤذنون في مالطة"، "الكتابة بالحبر المغربي".
اشتغل الرجل على التراث بشكل مغاير، فقد كان مولعاً بإخراج شخصيات من عمق التاريخ العربي وبعثها في الزمن الحاضر، كما فعل في "ابن الرومي في مدن الصفيح" و"امرؤ القيس في باريس" و"عنترة في المرايا المكسرة"؛ وجعل نصوصه المسرحية امتدادا لتلك الكلمة التي لا يمكن ذكر اسمه من دونها، "الاحتفالية".
نشر برشيد خلال الفترة الأخيرة مجموعة من البيانات يدعو فيها إلى الحفاظ على أخلاق المسرح وحدوده، وعدم التهافت على الوسائط الحديثة التي قد تفرغ أب الفنون من روحه، مناشدا، كعادته، المسرحيين العرب ألا ينشغلوا بالجانب الفرجوي فقط على حساب رسالة المسرح، وأن يُبقوا هذا الفن صافياً وبعيداً عن التأثيرات السلبية لما هو عابر في عصرنا.
حظي برشيد بتكريم خاص، أخيراً، خلال الدورة الثالثة من "المهرجان الدولي للمسرح" في طنجة، التي اختتمت قبل أسبوعين، ويرى الرجل في هذا التكريم محطة ضمن محطات كثيرة، هي محطات للعبور، لا أحد يتوقف فيها: "علي أن أقول كلمتي ثم أمضي إلى الأمام، ومن يكتب لا يرجو جزاءً ولا شكورا. شجرة التفاح التي تعطي التفاح لا تنتظر من يكرّمها أو يشكرها. أنا كاتب لدي رسالة أعمل دائماً على إيصالها للناس، وهي رسالة قائمة على المحبة والتعييد والحوار بالتي هي أحسن. وكل تكريم على ذلك أعتبره كرماً من أطراف تتقاطع مع مشروعي المسرحي وتقدّره. الكاتب لا يحتاج في النهاية سوى كلمة طيبة".
المسرح احتفال شعبي قائم على التلاقي، إذا ضيّع طابعه الاحتفالي والإنساني سيفقد كثيراً من روحه. هذا ما يراه برشيد وهو يستشعر انحراف هذا الفن عن مساره: "كثير من مسرحيينا في المغرب وفي العالم العربي أدخلوا التلفزيون والسينما والتصوير إلى المسرح حتى لم يعد مسرحاً، لذلك طالبت بألا تكون المسرحية مجرد فرجة، فالدرجة الصفر في المسرح هي الفرجة. لقد طالبت وأطالب دائماً المسرحيين بأن يظلوا مسرحيين، وأن يدعوا السيرك لأهل السيرك، والكباريه لأهل الكباريه".
هي إذاً دعوة لينتبه المسرحيون إلى حدود هذا الفن، ويدركوا أنه لن يزدهر إلا إذا حافظ على جوهره. "في المسرح ليس المهم أن نتفرّج، بل أن نتفاعل. أنا أؤكد دائماً على ضرورة وجود مسرح حيّ يقوم على التفاعل والمشاركة والاقتسام". هذا التحذير الذي أورده برشيد في بيان طنجة هو امتداد لنداءات سابقة في بيان عمّان وبيان الشارقة وبيان الأغنية الاحتفالية وبيان التجريب الاحتفالي. بيان طنجة هو بمثابة الحلقة الأخيرة ضمن كتاب سيصدر بعد شهرين خلال الدورة الجديدة من "مهرجان المسرح العربي" في الرباط، وسيكون عنوانه "البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة".
غالباً ما يُنظر لبرشيد على أنه صاحب قضية واضحة في المسرح، اسمها الأخلاق، إذ يعتبر "صاحب المؤذنون في مالطة" أن فلسفة الأخلاق وفلسفة الجمال مرتبطتان: "ليس هناك فن من دون جمال، نحن نسميها أصلاً الفنون الجميلة، والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً"، هذا ما تعلمناه من الشاعر إيليا أبو ماضي. ويضيف: "أركز على مفهوم الالتزام. هل كان سارتر أخلاقيا بالمعنى البسيط وهو يدعو للالتزام في الفن؟ هل كان غرامشي وهو يدعو لضرورة وجود المثقف العضوي أخلاقياً بالمعنى ذاته؟".
يدعو برشيد بشكل واضح إلى الالتزام بكل أساسيات العمل الإبداعي. المسرح آداب، و"إذا كان للأكل آداب في ثقافتنا فكيف لا يكون للمسرح آداب؟ هناك قواعد وأدبيات في المسرح، وحين سنفرط فيها سيموت هذا الفن بكل تأكيد". لا يحصر برشيد دعوته في المبادئ العامة فحسب، بل في الأدبيات الصغيرة، كالدخول إلى قاعة العرض بعد انطلاق المسرحية أو مغادرتها قبل النهاية، أو التصفيق في الوقت غير المناسب.
يرى رائد الاحتفالية أن المسرح أكثر حقيقة من الواقع، ويحاول تعليل هذا الرأي بقوله: "نحن نقول إسرائيل أسطورة وكذبة، لكنها واقع، الظلم والقبح واقع، لكن الحقيقة هي الجمال. الحق والمساواة والعدالة والتسامح هي الحقيقة، والواقع لا يرتفع إلا بسلطة الفن. لذلك يكون الخيال عند المبدعين أكثر حقيقة من الواقع". وظيفة المسرح لديه هي أن يتجاوز الواقع ليبدع ويقترب من العالم المثالي، لا أن يكون اجتراراً لواقع يعرفه الجميع.
وعن مستقبل المسرح العربي، أكد برشيد أن العالم العربي كله يجتاز الآن مناطق اضطرابات، لكنها مرحلة عابرة تقتضي الكثير من الهدوء والتريث: "هذا العبور قد يكون شاقاً ومتعباً ومكلفاً روحياً ونفسياً. هناك مطبّات كثيرة اقتضتها اللحظة التاريخية، لكن العبور يتطلب نوعاً من الحكمة كي نجتاز المرحلة بأقل ما يمكن من الخسائر. أنا أومن أن الآتي أجمل، ولو لم يكن كذلك لما فكرنا في الذهاب إليه".