في أواخر أكتوبر/ تشرين الأوّل المقبل يصدر كتاب عبودي أبو جودة، الذي يعد سابقة في مجال ملصق السينما العربية. سيقتصر هذه المرة على النتاج السينمائي اللبناني فقط، وتحديداً بين عامي 1929 و1979. وبالنظر إلى المطبوعات والمواد التي بحوزته وتنوعها بين الأفلام اللبنانية أو العربية عموماً أو الأجنبية، فهذا الكتاب سيكون مجرد فاتحة خطواته الأرشيفية. لم يصمم أبوجودة الغلاف بعد، كما لم يستقر على عنوان للكتاب. يقول لـ ملحق الثقافة: "إنها المرة الأولى التي تتم فيها أرشفة السينما التي لها علاقة بلبنان". والكتاب سيؤرخ بالملصق أو بالصور الفوتوغرافية المرفقة بتعليقات ومقتطفات من مقالات، لمائتين وعشرين فيلما. "أستطيع القول، إنني جمعت كل النتاج السينمائي المتعلق بلبنان". هو إذاً أول كتاب مصور وبهذه الدقة عن السينما اللبنانية أو الأفلام، الغنائية منها والعاطفية كما أفلام الحركة والمغامرات وغيرها. يتضمن ذلك أيضاً الأفلام التي أنتجت بين سورية ومصر وكان فيها لبنان موقع تصوير أو خلفية القصة.
إنها قصة هواية عيشت لتؤرخ. بدأها أبوجودة مراهقاً مع إبان الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. وتحول ذلك إلى حرفة في التسعينيات، أفادته فيها رحلاته كناشر إلى بعض الدول العربية. "كنت أقضي أوقات فراغي باحثاً في دور السينما عن أي صور أو ملصقات. آخذ الملصقات القديمة. ولاحقاً صارت دور السينما تتصل بسبب إيجادهم ملصق فيلم قديم. صرت معروفاً كجامع ملصقات". كما لو أنه صار لتلك الدور ثقة بأبو جودة كجامع فرد عوضاً عن إيداعها في أية مؤسسة رسمية. تعليقٌ مماثل يدفع أبو جودة للتصويب "أجل. لكنّ للمقابل المادي الذي أبذله دورا كبيرا في هذا. كانت الملصقات مآلها صندوق القمامة. وفجأة صار لها من يهتم بها. خبرتي كناشر ساعدتني على الاعتناء بهذه الملصقات". ثمة ملصقات أصبحت مستقلة نوعاً ما عن الفيلم بحيث يمكن لأبوجودة أن يتذكرها من دون الفيلم. فالملصق أول فن مفاهيمي، له لغته وعلاقته مع الذاكرة. "أنا لا أتذكر الكثير من الأفلام لكن الملصقات تحضر بقوة. علماً بأن أكثر من خمسين بالمائة من هذه الملصقات هي مجرد منسوخ عن الملصق الأجنبي. خصوصاً في أفلام الجاسوسية".
اقرأ أيضاً: حكايات الحرب الأهلية اللبنانية بألسنة مقاتلين مسيحيين
لم يفكر أبو جودة من قبل بنشر ما يملكه من أرشيف في كتاب، غير أن تزايد اهتمام السينمائيين والطلاب والباحثين في لبنان والخارج دفعه إلى عمل ذلك. "إضافة إلى هذا، فقد اكتشفت أن ما أملكه غير موجود حتى في أرشيف بعض المؤسسات في دول الخارج. في مصر مثلاً، يفتقدون الكثير من المواد البصرية والأرشيفية التي أملكها. والأمر ربما أسوأ حين يتعلق الأمر بلبنان. ليس هناك إلا القليل القليل لدى المؤسسة الرسمية. أما في تونس والجزائر فالوضع أفضل قليلاً. هناك فقط عناوين عريضة حين يتعلق الأمر بفيلم ما، أما بالنسبة لتفاصيل كل فيلم فهناك فقر في الأرشفة. والأسوأ من ذلك أنني أحياناً وفي خضم بحثي عن ملصق فيلم ما، لا أجد الفيلم أيضاً. أعني أنني لا أجد أي سجل رسمي يدل على وجود الفيلم من الأساس. السبب في ذلك هو الفوضى وعدم الاهتمام". هذا ما حول أبوجودة من مجرد هاو إلى باحث محترف في أحجية كبيرة سعياً لملء الفراغات فيها.
"ثمة خلل في ما يخصّ أرشيف السينما العربية عموماً. ثمة فجوات وفوضى إلى حد ما غير مفهومة. لقد وجدت أفلاماً لبنانية مثلاً في تونس ولم أجدها في بيروت، كما وجدت أفلاماً مصرية في لبنان لا القاهرة". وإيجاد الملصق في مدينة دون أخرى قد يكون مرتبطاً برواج الفيلم في هذه المدينة دون تلك. لكن بحث أبوجودة لا يقتصر عند سد النقص في أرشيف السينما العربية عموماً، بل يسعى على الصعيد المحلي، لنبش مادة بصرية يستطيع من خلالها أرشفة لبنان بالصورة والفيديو. استعادة تفاصيل مصورة من بيروت ولبنان عموماً، ليس بالأمر اليسير. وآلة الإعمار السريعة كانت الذراع الأخرى للحرب. لم يبق مكان يمكن أن يمثل بيئة مواطنة للبنانيين عموماً. هذا البعد السياسي والسوسيولوجي يدركه أبو جودة جيداً. كما لو أنه في موازاة بحثه عن قطع الأحجية المفقودة في السينما العربية يحاول أن يجد أيضاً قطع أحجية أصغر لمدينة تشظت صورتها بعد الحرب وحكم عليها بألا تستعيدها أبداً. "ثمة أفلام صورت في لبنان ولم تعرض لسبب أو مشكلات، وأفلام أخرى صور جزء منها وتوقف تصويرها. من المهم أن نجد بكرات هذه الأفلام. إن فيها صوراً لأماكن في بيروت لم تعد موجودة". غير أن هذه الأفلام لا ملصقات لها. لكنك قد تجد صوراً فوتوغرافية متعلقة ببعضها. هناك مادة أرشيفية إذاً، بطريقة أو بأخرى. "أعتقد أن مهمة الطلاب والباحثين إتمام هذه المهمة. نحن نتحدث عن أرشيف ثقافي لهذا البلد. هذه الأفلام تكتسب أهمية خاصة بحيث إن بعضها يظهر معالم من بيروت لم تعد موجودة اليوم أو حتى تصاوير لأشخاص قد يكون لهم أهمية اجتماعية أو ثقافية ما. نحن في بيروت في حاجة لهذه الوثائق البصرية السينمائية".
كهفه الصغير، غالباً ما يكون محجة لطلاب الجامعات في أبحاثهم السينمائية أو دراساتهم. يقول أبو جودة إنه يضع كل أرشيفه في تصرفهم. لكنه لا يثق بوضع هذا الأرشيف بين يدي مؤسسة رسمية. وحين يحدثك بإسهاب عن زياراته لمنازل موظفين سابقين في وزارات الثقافة في عدد من الدول العربية، واكتشافه بأنهم يملكون مواد أرشيفية سينمائية أحضروها من وزاراتهم إلى بيوتهم. ثم يبتسم صامتاً، كاسراً ملامح وجهه الصارمة نوعاً ما، تشعر كأنه يريد أن يقول لك "أنا لا أريد لأرشيفي السينمائي أن ينتهي في بيوت الموظفين". إلا أنه مع ذلك يمنّي النفس بأن تقوم مؤسسة ما بالاهتمام بهذا الأرشيف، بكل العناية التي يتطلبها هذا وتأمين الظروف المناخية المناسبة. لكنه يستدرك بالقول "لا أعتقد أن هناك اهتماماً كافيا من أية مؤسسة رسمية في لبنان بالاعتناء بهذا الأرشيف".
كتاب أبو جودة سيكون مقسماً في ثلاث حقبات زمنية. القسم الأول منه مخصص للأفلام اللبنانية التي أنتجت بين عامي 1929 و1959. أما القسمان الثاني والثالث فهما لأفلام حقبتي (1960-1969) و(1970-1979) على التوالي. الأفلام الثمانية أو التسعة الأولى لا ملصقات لها. ذلك أن فن الملصق لم يكن بعد قد أدخل في صناعة السينما. والإعلان عن فيلم ما كان يقتصر وقتذاك على إعلان مكتوب بخط اليد وعلى ورقة كبيرة، وقد يكون مطبوعًا. وفي أفضل الأحوال قد تجد صورة الشخصية الأساسية في الفيلم مدرجة كمحمد عبد الوهاب مثلاً أو أم كلثوم. تكون صورة فوتوغرافية مرفقة بعنوان الفيلم واسم الصالة. "في تلك الأيام، لم يكن هناك ملصقات بالشكل الذي نعرفه. وكان تسعون بالمائة من الأفلام اللبنانية تتم دبلجتها إلى المصرية لأسباب تتعلق بالتوزيع. ظهور التلفزيون أوقف هذ الأمر. إذا عوّد الناس على اللهجة اللبنانية، حتى إن بعض الأفلام اللبنانية كان يصدر باللغة الفرنسية. لم يكن هناك هوية للفيلم اللبناني. لكن المعادلة تغيرت تماماً في الحرب اللبنانية وما بعد الحرب اللبنانية". يتحدث أبوجودة عن حقبة الثلاثينيات. أما الأربعينيات والخمسينيات فشهدت تحولاً في هذا المجال. إذ مع ازدهار السينما ورواج الأفلام، أصبح هناك مؤسسات واستديوهات. عربياً، فقد بدأ كل ذلك في مصر. والملصق كوسيط إعلاني، لعب دوراً في شهرة العديد من الممثلين اللبنانيين. إذ بدأت وجوههم وأسماؤهم تظهر في الوقت نفسه على الملصق. "لبنان لم يكن قادراً على الاضطلاع بهذا الدور. نظراً لواقع أن وجود العثمانيين حتى الحرب العالمية الأولى كان قد ساهم في هجرة مثقفين كبار من سورية ولبنان. ثم هناك الانتداب الذي لم يشأ تشجيع صناعة السينما، لأن السينما التي ازدادت شعبيتها كانت حتماً ستتطرق إلى قضايا الناس الاكثر إلحاحاً لو سمح لها الفرنسيون بذلك، أي الاستقلال. لذلك لم يكن هناك مجال لشركات الإنتاج بأن يكون لها بيئة مناسبة في لبنان"، بحسب أبوجودة.
كتابه هذا مقتصر على الأفلام الروائية. أما الأفلام الوثائقية والأفلام السياحية كما الأفلام التي أنتجتها منظمة التحرير الفلسطينية أو منظمات فلسطينية يسارية فلم تدرج. "هذه الأفلام قد تأتي في خطوة أرشيفية قادمة". أرشيف الأفلام الوثائقية أكثر صعوبة وتعقيداً نظراً لأن هناك أفلاماً غير مسجلة في أي أرشيف.
وعند سؤاله إذا كان بالامكان قراءة تاريخ السينما اللبنانية وأطوارها من خلال هذه الملصقات، يقول "طبعاً. السينما اللبنانية بدأت بحكاية مهاجر يعود إلى ربوع وطنه. هذه إذن المشكلة الأقدم. أما الفيلم الثاني فكان "مغامرات أبو العبد في أفريقيا". في الأربعينيات والخمسينيات كان هناك البداوة والأفلام الاستعراضية التي راجت في السينما العالمية وكان المصريون يحاولون استنساخها. في الستينيات تغيرت الموجة. القسم الثاني هذا (1960-1969) يعد بمثابة فورة السينما في لبنان. خلال الخمسينيات صار هناك عدد من الاستديوهات وأصبح هناك هجرة مالية من فلسطين ومن سورية بسبب الأوضاع والاضطرابات السياسية".
ويتابع قائلًا: "كانت السينما قد بدأت تأخذ دورها الثقافي والتجاري. ففي لبنان اقتصر دورها على التجارة. وفي مصر، أممت السينما وقامت السلطة المصرية بتحديد عدد الأفلام التي يستطيع كل ممثل أو مخرج القيام بها في السنة الواحدة. لم يكن يحق للمخرج تصوير أكثر من فيلم واحد في السنة، كي يسمحوا لأكبر عدد من المخرجين بالعمل. وكان عدد الأفلام المصرية أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات قد وصل إلى ما بين خمسين وستين فيلماً في السنة. المشهد اكتظ بالأفلام والمخرجين، ولهذا ارتأت الدولة القيام بتلك الخطوة. الأمر الذي أثر على نوعية الأفلام أكثر. باعتقادي فإن ذلك ساهم في الارتقاء بالسينما المصرية وتم إنتاج عدد كبير من الأفلام ذات الدلالة الاجتماعية الكبيرة، كقصص نجيب محفوظ "بين القصرين"، "الحرام"، "يوميات نائب في الأرياف"، "المتمردون". وهي الأفلام التي تعكس الواقع الشعبي والقضايا العامة. كان هناك اتجاه معين. الأمر الذي استفاد منه اللبنانيون في الخمسينيات، لأن بيروت كانت مركز التجارة في الشرق الأوسط خلال الخمسينيات، والشركات الأميركية جعلتها مركزًا إقليميًا لتوزيع الأفلام في الشرق الأدنى، فوصلت إلى إيران وتركيا وأفغانستان وباكستان. ما جعل اللبنانيين يكتسبون مهارات في التوزيع وأتاح لهم ذلك بناء علاقات مهمة في مجال السينما. في الستينيات، صار هناك ضمور في الإنتاج المصري. فتحول أغلبية موزعي الأفلام اللبنانيين إلى منتجين. ثم استعانوا بالفنيين المصريين، كيوسف شاهين، أحمد طوخي، سيد طنطاوي، فاروق عجرمة وغيرهم. فقد كان السوق يتطلب ذلك. إذ إن الدول العربية كانت في طور الاستقلال وكان هناك اهتمام بالمنتج الثقافي باللغة العربية. كما أن هناك أسبابا سياسية؛ تونس ومصر كانتا على خلاف. وأيضاً مصر وبغداد. أما بيروت فكانت مدينة مرنة، لها علاقات متوازنة مع الجميع. ما جعلها مركزاً لتوزيع الأفلام. أصبح هناك نوع من الازدهار في هذا المجال، ووصل النتاج السينمائي لقرابة الثلاثين فيلماً في السنة. غير أن مستوى الكثير من هذه الأفلام كان في الحضيض، فنياً وتقنياً وعلى مستوى كتابة السيناريو. كان هناك حاجة لملء فراغ السوق فقط. بغداد كانت مهتمة كثيراً باستيراد الأفلام. فشهدنا إنتاج أفلام غنائية أولاً ثم أفلام جاسوسية على قياس جيمس بوند قبل أن يتحول الاهتمام إلى الجنس في السبعينيات في محاولة لتقليد العديد من ممثلي الغرب بظهورهم عراة على الشاشة. وهي أفلام صورت في لبنان أو في لبنان وبالاشتراك مع تركيا أو سورية أو مصر. في الوقت نفسه فإن المنتجين السوريين الذين ضيقت عليهم السلطة في سورية بعد فرض رقابة صارمة على الأفلام، فتحوا شركات إنتاج في لبنان. وصار إنتاج هذه الأفلام الهابطة يحسب على لبنان. لكن الأمر عاد وانقلب سلباً، فبين عامي 1975 و1979 وصل الإنتاج السينمائي إلى أدنى حدوده. ولم يعد يتجاوز الفيلم أو الفيلمين في السنة. فالمصريون بعد موت عبدالناصر أوقفوا تأميم السينما ففتحت الأسواق. ما جعل المنتجين اللبنانيين ينتقلون إلى القاهرة، لأن صناعة الأفلام كانت أوفر بـ 75% كما أن أزمة بنك إنترا في الستينيات الذي كان ممولاً كبيراً لبعض استديوهات السينما والمخرجين أيضاً، أدّت دوراً في هذا. وربما باستثناء أفلام الرحابنة وفيلم الأجنحة المتكسرة نقلاً عن جبران و"الأخرس والحب" و"إلى أين" لسمير نصر، يمكنك القول إن النتاج اللبناني القيم على صعيد السينما لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين في أبعد تقدير".
إنها قصة هواية عيشت لتؤرخ. بدأها أبوجودة مراهقاً مع إبان الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. وتحول ذلك إلى حرفة في التسعينيات، أفادته فيها رحلاته كناشر إلى بعض الدول العربية. "كنت أقضي أوقات فراغي باحثاً في دور السينما عن أي صور أو ملصقات. آخذ الملصقات القديمة. ولاحقاً صارت دور السينما تتصل بسبب إيجادهم ملصق فيلم قديم. صرت معروفاً كجامع ملصقات". كما لو أنه صار لتلك الدور ثقة بأبو جودة كجامع فرد عوضاً عن إيداعها في أية مؤسسة رسمية. تعليقٌ مماثل يدفع أبو جودة للتصويب "أجل. لكنّ للمقابل المادي الذي أبذله دورا كبيرا في هذا. كانت الملصقات مآلها صندوق القمامة. وفجأة صار لها من يهتم بها. خبرتي كناشر ساعدتني على الاعتناء بهذه الملصقات". ثمة ملصقات أصبحت مستقلة نوعاً ما عن الفيلم بحيث يمكن لأبوجودة أن يتذكرها من دون الفيلم. فالملصق أول فن مفاهيمي، له لغته وعلاقته مع الذاكرة. "أنا لا أتذكر الكثير من الأفلام لكن الملصقات تحضر بقوة. علماً بأن أكثر من خمسين بالمائة من هذه الملصقات هي مجرد منسوخ عن الملصق الأجنبي. خصوصاً في أفلام الجاسوسية".
اقرأ أيضاً: حكايات الحرب الأهلية اللبنانية بألسنة مقاتلين مسيحيين
لم يفكر أبو جودة من قبل بنشر ما يملكه من أرشيف في كتاب، غير أن تزايد اهتمام السينمائيين والطلاب والباحثين في لبنان والخارج دفعه إلى عمل ذلك. "إضافة إلى هذا، فقد اكتشفت أن ما أملكه غير موجود حتى في أرشيف بعض المؤسسات في دول الخارج. في مصر مثلاً، يفتقدون الكثير من المواد البصرية والأرشيفية التي أملكها. والأمر ربما أسوأ حين يتعلق الأمر بلبنان. ليس هناك إلا القليل القليل لدى المؤسسة الرسمية. أما في تونس والجزائر فالوضع أفضل قليلاً. هناك فقط عناوين عريضة حين يتعلق الأمر بفيلم ما، أما بالنسبة لتفاصيل كل فيلم فهناك فقر في الأرشفة. والأسوأ من ذلك أنني أحياناً وفي خضم بحثي عن ملصق فيلم ما، لا أجد الفيلم أيضاً. أعني أنني لا أجد أي سجل رسمي يدل على وجود الفيلم من الأساس. السبب في ذلك هو الفوضى وعدم الاهتمام". هذا ما حول أبوجودة من مجرد هاو إلى باحث محترف في أحجية كبيرة سعياً لملء الفراغات فيها.
"ثمة خلل في ما يخصّ أرشيف السينما العربية عموماً. ثمة فجوات وفوضى إلى حد ما غير مفهومة. لقد وجدت أفلاماً لبنانية مثلاً في تونس ولم أجدها في بيروت، كما وجدت أفلاماً مصرية في لبنان لا القاهرة". وإيجاد الملصق في مدينة دون أخرى قد يكون مرتبطاً برواج الفيلم في هذه المدينة دون تلك. لكن بحث أبوجودة لا يقتصر عند سد النقص في أرشيف السينما العربية عموماً، بل يسعى على الصعيد المحلي، لنبش مادة بصرية يستطيع من خلالها أرشفة لبنان بالصورة والفيديو. استعادة تفاصيل مصورة من بيروت ولبنان عموماً، ليس بالأمر اليسير. وآلة الإعمار السريعة كانت الذراع الأخرى للحرب. لم يبق مكان يمكن أن يمثل بيئة مواطنة للبنانيين عموماً. هذا البعد السياسي والسوسيولوجي يدركه أبو جودة جيداً. كما لو أنه في موازاة بحثه عن قطع الأحجية المفقودة في السينما العربية يحاول أن يجد أيضاً قطع أحجية أصغر لمدينة تشظت صورتها بعد الحرب وحكم عليها بألا تستعيدها أبداً. "ثمة أفلام صورت في لبنان ولم تعرض لسبب أو مشكلات، وأفلام أخرى صور جزء منها وتوقف تصويرها. من المهم أن نجد بكرات هذه الأفلام. إن فيها صوراً لأماكن في بيروت لم تعد موجودة". غير أن هذه الأفلام لا ملصقات لها. لكنك قد تجد صوراً فوتوغرافية متعلقة ببعضها. هناك مادة أرشيفية إذاً، بطريقة أو بأخرى. "أعتقد أن مهمة الطلاب والباحثين إتمام هذه المهمة. نحن نتحدث عن أرشيف ثقافي لهذا البلد. هذه الأفلام تكتسب أهمية خاصة بحيث إن بعضها يظهر معالم من بيروت لم تعد موجودة اليوم أو حتى تصاوير لأشخاص قد يكون لهم أهمية اجتماعية أو ثقافية ما. نحن في بيروت في حاجة لهذه الوثائق البصرية السينمائية".
كهفه الصغير، غالباً ما يكون محجة لطلاب الجامعات في أبحاثهم السينمائية أو دراساتهم. يقول أبو جودة إنه يضع كل أرشيفه في تصرفهم. لكنه لا يثق بوضع هذا الأرشيف بين يدي مؤسسة رسمية. وحين يحدثك بإسهاب عن زياراته لمنازل موظفين سابقين في وزارات الثقافة في عدد من الدول العربية، واكتشافه بأنهم يملكون مواد أرشيفية سينمائية أحضروها من وزاراتهم إلى بيوتهم. ثم يبتسم صامتاً، كاسراً ملامح وجهه الصارمة نوعاً ما، تشعر كأنه يريد أن يقول لك "أنا لا أريد لأرشيفي السينمائي أن ينتهي في بيوت الموظفين". إلا أنه مع ذلك يمنّي النفس بأن تقوم مؤسسة ما بالاهتمام بهذا الأرشيف، بكل العناية التي يتطلبها هذا وتأمين الظروف المناخية المناسبة. لكنه يستدرك بالقول "لا أعتقد أن هناك اهتماماً كافيا من أية مؤسسة رسمية في لبنان بالاعتناء بهذا الأرشيف".
كتاب أبو جودة سيكون مقسماً في ثلاث حقبات زمنية. القسم الأول منه مخصص للأفلام اللبنانية التي أنتجت بين عامي 1929 و1959. أما القسمان الثاني والثالث فهما لأفلام حقبتي (1960-1969) و(1970-1979) على التوالي. الأفلام الثمانية أو التسعة الأولى لا ملصقات لها. ذلك أن فن الملصق لم يكن بعد قد أدخل في صناعة السينما. والإعلان عن فيلم ما كان يقتصر وقتذاك على إعلان مكتوب بخط اليد وعلى ورقة كبيرة، وقد يكون مطبوعًا. وفي أفضل الأحوال قد تجد صورة الشخصية الأساسية في الفيلم مدرجة كمحمد عبد الوهاب مثلاً أو أم كلثوم. تكون صورة فوتوغرافية مرفقة بعنوان الفيلم واسم الصالة. "في تلك الأيام، لم يكن هناك ملصقات بالشكل الذي نعرفه. وكان تسعون بالمائة من الأفلام اللبنانية تتم دبلجتها إلى المصرية لأسباب تتعلق بالتوزيع. ظهور التلفزيون أوقف هذ الأمر. إذا عوّد الناس على اللهجة اللبنانية، حتى إن بعض الأفلام اللبنانية كان يصدر باللغة الفرنسية. لم يكن هناك هوية للفيلم اللبناني. لكن المعادلة تغيرت تماماً في الحرب اللبنانية وما بعد الحرب اللبنانية". يتحدث أبوجودة عن حقبة الثلاثينيات. أما الأربعينيات والخمسينيات فشهدت تحولاً في هذا المجال. إذ مع ازدهار السينما ورواج الأفلام، أصبح هناك مؤسسات واستديوهات. عربياً، فقد بدأ كل ذلك في مصر. والملصق كوسيط إعلاني، لعب دوراً في شهرة العديد من الممثلين اللبنانيين. إذ بدأت وجوههم وأسماؤهم تظهر في الوقت نفسه على الملصق. "لبنان لم يكن قادراً على الاضطلاع بهذا الدور. نظراً لواقع أن وجود العثمانيين حتى الحرب العالمية الأولى كان قد ساهم في هجرة مثقفين كبار من سورية ولبنان. ثم هناك الانتداب الذي لم يشأ تشجيع صناعة السينما، لأن السينما التي ازدادت شعبيتها كانت حتماً ستتطرق إلى قضايا الناس الاكثر إلحاحاً لو سمح لها الفرنسيون بذلك، أي الاستقلال. لذلك لم يكن هناك مجال لشركات الإنتاج بأن يكون لها بيئة مناسبة في لبنان"، بحسب أبوجودة.
كتابه هذا مقتصر على الأفلام الروائية. أما الأفلام الوثائقية والأفلام السياحية كما الأفلام التي أنتجتها منظمة التحرير الفلسطينية أو منظمات فلسطينية يسارية فلم تدرج. "هذه الأفلام قد تأتي في خطوة أرشيفية قادمة". أرشيف الأفلام الوثائقية أكثر صعوبة وتعقيداً نظراً لأن هناك أفلاماً غير مسجلة في أي أرشيف.
وعند سؤاله إذا كان بالامكان قراءة تاريخ السينما اللبنانية وأطوارها من خلال هذه الملصقات، يقول "طبعاً. السينما اللبنانية بدأت بحكاية مهاجر يعود إلى ربوع وطنه. هذه إذن المشكلة الأقدم. أما الفيلم الثاني فكان "مغامرات أبو العبد في أفريقيا". في الأربعينيات والخمسينيات كان هناك البداوة والأفلام الاستعراضية التي راجت في السينما العالمية وكان المصريون يحاولون استنساخها. في الستينيات تغيرت الموجة. القسم الثاني هذا (1960-1969) يعد بمثابة فورة السينما في لبنان. خلال الخمسينيات صار هناك عدد من الاستديوهات وأصبح هناك هجرة مالية من فلسطين ومن سورية بسبب الأوضاع والاضطرابات السياسية".
ويتابع قائلًا: "كانت السينما قد بدأت تأخذ دورها الثقافي والتجاري. ففي لبنان اقتصر دورها على التجارة. وفي مصر، أممت السينما وقامت السلطة المصرية بتحديد عدد الأفلام التي يستطيع كل ممثل أو مخرج القيام بها في السنة الواحدة. لم يكن يحق للمخرج تصوير أكثر من فيلم واحد في السنة، كي يسمحوا لأكبر عدد من المخرجين بالعمل. وكان عدد الأفلام المصرية أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات قد وصل إلى ما بين خمسين وستين فيلماً في السنة. المشهد اكتظ بالأفلام والمخرجين، ولهذا ارتأت الدولة القيام بتلك الخطوة. الأمر الذي أثر على نوعية الأفلام أكثر. باعتقادي فإن ذلك ساهم في الارتقاء بالسينما المصرية وتم إنتاج عدد كبير من الأفلام ذات الدلالة الاجتماعية الكبيرة، كقصص نجيب محفوظ "بين القصرين"، "الحرام"، "يوميات نائب في الأرياف"، "المتمردون". وهي الأفلام التي تعكس الواقع الشعبي والقضايا العامة. كان هناك اتجاه معين. الأمر الذي استفاد منه اللبنانيون في الخمسينيات، لأن بيروت كانت مركز التجارة في الشرق الأوسط خلال الخمسينيات، والشركات الأميركية جعلتها مركزًا إقليميًا لتوزيع الأفلام في الشرق الأدنى، فوصلت إلى إيران وتركيا وأفغانستان وباكستان. ما جعل اللبنانيين يكتسبون مهارات في التوزيع وأتاح لهم ذلك بناء علاقات مهمة في مجال السينما. في الستينيات، صار هناك ضمور في الإنتاج المصري. فتحول أغلبية موزعي الأفلام اللبنانيين إلى منتجين. ثم استعانوا بالفنيين المصريين، كيوسف شاهين، أحمد طوخي، سيد طنطاوي، فاروق عجرمة وغيرهم. فقد كان السوق يتطلب ذلك. إذ إن الدول العربية كانت في طور الاستقلال وكان هناك اهتمام بالمنتج الثقافي باللغة العربية. كما أن هناك أسبابا سياسية؛ تونس ومصر كانتا على خلاف. وأيضاً مصر وبغداد. أما بيروت فكانت مدينة مرنة، لها علاقات متوازنة مع الجميع. ما جعلها مركزاً لتوزيع الأفلام. أصبح هناك نوع من الازدهار في هذا المجال، ووصل النتاج السينمائي لقرابة الثلاثين فيلماً في السنة. غير أن مستوى الكثير من هذه الأفلام كان في الحضيض، فنياً وتقنياً وعلى مستوى كتابة السيناريو. كان هناك حاجة لملء فراغ السوق فقط. بغداد كانت مهتمة كثيراً باستيراد الأفلام. فشهدنا إنتاج أفلام غنائية أولاً ثم أفلام جاسوسية على قياس جيمس بوند قبل أن يتحول الاهتمام إلى الجنس في السبعينيات في محاولة لتقليد العديد من ممثلي الغرب بظهورهم عراة على الشاشة. وهي أفلام صورت في لبنان أو في لبنان وبالاشتراك مع تركيا أو سورية أو مصر. في الوقت نفسه فإن المنتجين السوريين الذين ضيقت عليهم السلطة في سورية بعد فرض رقابة صارمة على الأفلام، فتحوا شركات إنتاج في لبنان. وصار إنتاج هذه الأفلام الهابطة يحسب على لبنان. لكن الأمر عاد وانقلب سلباً، فبين عامي 1975 و1979 وصل الإنتاج السينمائي إلى أدنى حدوده. ولم يعد يتجاوز الفيلم أو الفيلمين في السنة. فالمصريون بعد موت عبدالناصر أوقفوا تأميم السينما ففتحت الأسواق. ما جعل المنتجين اللبنانيين ينتقلون إلى القاهرة، لأن صناعة الأفلام كانت أوفر بـ 75% كما أن أزمة بنك إنترا في الستينيات الذي كان ممولاً كبيراً لبعض استديوهات السينما والمخرجين أيضاً، أدّت دوراً في هذا. وربما باستثناء أفلام الرحابنة وفيلم الأجنحة المتكسرة نقلاً عن جبران و"الأخرس والحب" و"إلى أين" لسمير نصر، يمكنك القول إن النتاج اللبناني القيم على صعيد السينما لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين في أبعد تقدير".