عز العرب العلوي: "أنجزت عملاً سينمائياً لا تأريخاً لمعتقل"

25 أكتوبر 2019
عز العرب العلوي: للمعتقل قضية (العربي الجديد)
+ الخط -

عز العرب العلوي، مخرج لامع في السينما المغربية، منذ فيلمه القصير الأول "بيدوزا" (2004)، وصولاً إلى الروائيّ الطويل الأخير له، "كيليكيس... دوّار البوم"، المشارك في مهرجانات عربية ودولية، لاتاحته متعًا جمالية، تكمن في حرص المخرج على النهل من التاريخ، وجعله إطارًا زمنيًا يحتضن الموضوع، لا كتأريخ له بل كفضاء ووعاء للتخييل والحلم والحكي الجريح.

في أفقه الفكري، يتّجه الفيلم إلى موضوعٍ يصعب تناوله في الفيلموغرافيا المغربية: الاعتقال. فالموضوع حرج، وغير مُفكَّر به سينمائيًا، وإن يتمّ التطرّق إليه ظاهريًا في أفلام، لم تقبض على أبعاده الفكرية والسياسية، فتعاملت معه بنوعٍ من التضليل، ولم تنجح في سبر خصوصياته في الصورة السينمائية، كما فعل عز العرب العلوي، وهو يروي بحرقة شديدة حياة حرّاس قلعة، هي معتقل سرّي رهيب، في إحدى المناطق الصحراوية. وبسبب قسوة المناخ وشظف العيش، يُصبح الحرّاس هم المعتقلون الحقيقيون.

في 4 سبتمبر/ أيلول 2019، بدأ عرض"كيليكس... دوّار البوم" في صالات مغربية مختلفة، وعروضه مستمرّة لغاية الآن في مدن مغربية مختلفة.

بهذه المناسبة، أجرت "العربي الجديد" حوارًا مع عز العرب العلوي:

أعرف أنّك أحد المخرجين الذين يمتلكون تكوينًا سينمائيًا رصينًا في المغرب. كيف جاء هذا الشغف الباكر بالسينما؟
أظنّ أنه في ظلّ العيش في منطقة تُعتَبر هامشية، ولا توجد فيها بنى تحتية للمساهمة الثقافية في تنمية الإنسان، لم أجد أمامي حينها سوى "نادي النخيل السينمائي". أحببت السينما بفضل النقاشات، ولم أبرح مقاعد "سينما الواحة" إلا نادرًا. لاحقًا، تطوّر الأمر وأنا في سنّ باكرة، خصوصًا في مرحلة الدراسة الثانوية، فأنجزت مع تلاميذ "ثانوية سجلماسة" فيلمًا قصيرًا بعنوان "أنقذوني"، عام 1985.

من هنا، بدأت الحكاية. لاحقًا، عملتُ مساعد مخرج في أفلام مغربية عديدة، وأنجزت دبلوم دراسات عليا في السينما في المغرب عام 1996، بإشراف المخرج الراحل محمد الكغاط والناقد السينمائي نور الدين الصايل، الذي كان حينها مديرًا للبرامج التلفزيونية بـ"كنال بلوس ـ فرنسا". ثم تطوّر هذا الشغف بفضل تدريبات سينمائية عديدة، أنجزت بعدها دكتوراه في الخطاب السينمائي، عام 2000، وحصلت على شهادة الإخراج من كندا عام 2004. ثم بدأتُ إنجاز أفلامٍ قصيرة (35 ملم) بعدها مباشرة، قبل انتقالي إلى الأفلام الطويلة، التي لا أزال أحقّقها لغاية الآن.

أطروحة الدكتوراه كانت بعنوان "الخطاب السينمائي في المغرب". لماذا هذا الشغف بالكتابة التنظيرية، بينما لا يبتعد مخرجون مغاربة عديدون عن "قلعتهم الحصينة"، أعني بها الإخراج؟
الاشتغال بالتنظير ليس بالضرورة ابتعادًا عن الإخراج، لأنّ ما هو نظري يُعتَبر خلفية معرفية للتطبيق السينمائي عبر الإخراج.

برأيي، للمخرج الوسائل كلّها التي تؤهّله ليكون ناقدًا سينمائيًا رفيع المستوى، لأنّه لا يصحّ أنْ تكون ناقدًا وأنتَ تجهل قواعد بناء الكتابة السينمائية، ولا الخلفية الفلسفية للمونتاج، ولا التراكيب السيميولوجية لتوالي اللقطات، إلخ. المخرج هو أول ناقد لعمله. لذلك، تجده يشتغل باستمرار على عمله، فيُنجز الإصدارات المتتالية، الأول والثاني والثالث، وهكذا.

في "كيليكيس... دوّار البوم"، تطرّقت إلى موضوع الاعتقال، وهذه ليست المرة الأولى التي يتناول فيها مخرجٌ مغربيّ موضوعًا كهذا. لكن معالجتك السينمائية مميّزة وواضحة في مَشَاهده. كيف يُمكن معالجة موضوع مؤلم كالاعتقال، خصوصًا في فترة محدّدة من التاريخ المعاصِر للمغرب؟
فعلاً، مقاربة "أعوام الرصاص" في السينما المغربية ليست جديدة، فهي بدأت مطلع القرن الحالي، مع إنتاج أفلام مغربيّة عديدة تتناول تلك المرحلة، كـ"جوهرة بنت الحبس" (2003، سعد الشرايبي) و"الغرفة السوداء" (حسن بنجلون، 2004). لكن طريقة المعالجة لديّ تختلف بشكل كبير، فالموضوع ليس سهلاً، ومقاربته تأخذك صوب منحيين: الأول، اتجاه يُسقطك في فخّ المباشرة، وفي أشياء لم تعد مهمّة في السينما، لأنّها لم تعد تؤثّر في المتلقّي، الذي يعتبرها كلاسيكية تمّ تجاوزها؛ الثاني، أن تتبنّى منهجًا رمزيًا وسيميولوجيًا، فتُشعر الآخر بالتعذيب والمأساة من دون أن يشاهد مظاهر التعذيب والمأساة في الفيلم.

اشتغلتُ على هذا، واعتبرتُه إضافة نوعية. لذلك، تعمّدت عدم تكرار ما قام به من سبقني في تناول الموضوع، محاولاً مقاربته بطريقة جديدة لا تعتمد المباشرة بل الإيحاء، ولا تُظهِر المعتقلين تمامًا، فتعيش المأساة نفسيًا لا بصريًا، لأنك تشعر بها داخلك.

هذا أسمّيه "المقاربة بالمرآة"، وهي تَصوّر بصري يعتمد على مشاهدة تعذيب المعتقلين في عيون الحرّاس. بمعنى أنّ ما يعانيه الحارس ويتخبّط فيه إزاء تمزق الروابط الأسرية، انعكاس لما يعيشه المعتقلون. أيّ أنّ العملية معكوسة.

هذا لم يتطلّب منّي، في الحقيقة، بحثًا عمّا يعانيه المعتقل، بل بحثًا عمّا يعانيه السجّان، لأنّ علاقة السجّان بالسجين مُربكة، لكونها غير طبيعية، فأصل الواقع الذي تدور فيه العملية غير طبيعي، وبالتالي يخلق عقدًا نفسية لا يمكن تصوّرها إلا في تلك الأمكنة.

زمنيًا، تدور أحداث الفيلم في فترة "أعوام الرصاص"، وتتناول حياة حرّاس قلعة هي معتقل سرّي في الصحراء، داخل سجن عسكري رهيب. كيف يمكن التمييز في الفيلم بين التاريخي/ الواقعي والتخييلي؟
ليست القضايا المطروحة في الأفلام واقعية بالضرورة. حتى وإنْ تكن منقولة عن حدث واقعي، لا يمكن اعتبارها واقعية بالمرة، بل مقاربة جديدة للواقع من زاوية المخرج، لأن طبيعة الكتابة السينمائية تتطلّب إضافة قضايا وقصص لإكمال مفهوم الحكي السينمائي. ما هو داخل "دوّار البوم" تجميع لعدد من الحكايات الصغيرة، التي اختزنتها في مرحلة الطفولة، إما عن طريق روايات أبناء الحرّاس، أو الحرّاس أنفسهم، أو ما كان يشاع آنذاك ويتردّد على ألسنة الجميع. شخصيًا، لم يخطر ببالي أنْ أدقّق في طبيعة تلك القصص، لأنّي لا أكتب تاريخًا مفصّلًا للمعتقل، بل أخرج فيلمًا سينمائيًا على خلفية محتملة لمعتقلات كانت موجودة في منطقة طفولتي آنذاك. هكذا جاء الفيلم سينمائيًا تخييليًا، وليس تأريخًا لمعتقل ما.

يُعتبر السيناريو البناء الأول للفيلم، ونسبة جودته تساهم بشكل كبير في نجاحه. هل أنت من أولئك الذي يعملون على تطوير السيناريو أثناء التصوير؟
طبيعة الكتابة السينمائية تفرض عليك أنْ تكتب مجموعة صيغ للسيناريو، فتجد نفسك تكتب مرّات عديدة، حتى تقتنع بنضج النص، فيصبح جاهزًا للإخراج. وحين تنتقل إلى مرحلة الإنتاج، يصعب عليك المساس بالعمود الفقري للسيناريو. لكن، وأنت تصوّر، ربما تضيف بعض الأشياء البسيطة، التي تهبها لك الطبيعة، كهطول الأمطار فجأة، أو دخول حمامة في إطار لحظة غرامية بشكل عشوائيّ.

شاركت في "كيليكيس... دوّار البوم" نخبة من الممثلين المغاربة، تبدو أنفاسهم واضحة في المشاهد. لماذا يُراهن المخرج المغربي على أسماء سينمائية معروفة؟ هل للأمر علاقة بالجودة والاحتراف، أم أنّ أسماء كهذه تُساهم في شهرة الفيلم وتسويقه جيّدًا؟
اختيار الممثل الذي يحتاج إليه الدور/ الشخصية عملية دقيقة لإنجاح أيّ شريط سينمائي. في اختياري ممثلاً، أعتمد أولاً على قسماته وسحنته، التي يجب أنْ تكون دالّة بامتياز، وثانيًا على طريقة الأداء، وثالثًا على روح التواصل لديه.

إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار "كيليكيس... دوّار البوم" امتدادًا سينمائيًا لـ“أندرومان... من دم وفحم"، علمًا أنّهما يشتركان في خصوصية واحدة، تتّصل بالمعذّبين في الأرض؟
معك حقّ. الجديد استمرار لـ"أندرومان...". الفيلمان يشتغلان على الهامش، وعلى المعذّبين في الأرض، كما تقول، وهما "صوت من لا صوت له". هذا، بحدّ ذاته، خطّ تحريري في الإخراج. ما شاهدناه في "أندرومان..." تهميشٌ لقبيلة كاملة. هؤلاء الذين يعيشون في مناطق كهذه، يقتسمون معنا الجغرافيا والتاريخ، لكنهم لا يقتسمون معنا الثروات والحق في العيش الكريم. هذا حاصلٌ في "كيليكيس..." أيضًا، لكن بطريقة مغايرة، أي عبر تناول التهميش المرتبط بالجهل. فهؤلاء أناسٌ عاديون، لا يعرفون القراءة والكتابة، وبالتالي هم يمارسون عاداتهم اليومية انطلاقًا من أوامر تأتيهم من جهات معيّنة.

على الأقلّ، للمعتقل قضية، ودخوله المعتقل أمر واع. أما الحارس فهو مُعتقل من دون قضية. معتقل بسبب الجهل الذي يغرق فيه من دون أنْ يدري.

المساهمون