لا تنتهي مأسي الحروب ولا تنحصر في جانب واحد، كما أنها لا تتوقف بالضرورة مع هدوء المعارك أو انتهائها في منطقة معينة، فكثيراً ما يبقى خطر الموت داهماً في مناطق ساخنة بعد هدوء الاشتباكات، بفعل الألغام المزروعة في أراضٍ كانت حدودية بين جانبين متحاربين؛ إذ إن سكان تلك المناطق سيواجهون مخاطر انفجار الألغام، التي بالغالب لا تُعرف خرائط توزعها.
وقتل أول من أمس أحمد النعساني، المعروف باسم أبو الفضل، وهو أحد أبناء مدينة الباب السورية، بانفجار لغم خلال محاولة تفكيكه في قرية الزندين غرب مدينة الباب، والتي تحررت من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أواخر فبراير/شباط الماضي. واللغم، الذي أودى بحياة أبو الفضل، واحد من مئات الألغام والعبوات التي زرعها "داعش" في الباب قبيل انسحابه من المدينة، والتي استطاع أبو الفضل وحده تفكيك نحو ألفين منها، وفقاً لتقديرات نشطاء من المدينة. وأبو الفضل، والذي عمل قبل الثورة السورية محاضراً في الأكاديمية العسكرية، استعان بخبرته في تفكيك العبوات لإنقاذ أبناء مدينته من الموت. وكان قد تحدث، في لقاء صوّر قبل مقتله بفترة وجيزة، عن أنه "فكك ألغاماً وعبوات زرعها التنظيم من أماكن لا يمكن لأحد أن يتنبأ بوجودها فيها، مثل قلب مكنسة الكهرباء وخلف الغسالات وأدراج المطابخ وألعاب الأطفال، ومن الممرات والطرق العامة".
ويكاد لا يمر أسبوع واحد خلال الأشهر الماضية، دون أن تنتشر أخبار عن انفجارات ألغامٍ أرضية في مناطق مختلفة في سورية، ما يؤدي لسقوط عشرات الضحايا من المدنيين، تحديداً في المناطق التي فترت أو توقفت فيها المعارك، فيجد أهلها النازحون منها نتيجة لذلك، فرصة للعودة إلى حياتهم الطبيعية التي سيبقى أثر الألغام المزروعة واحداً من أكبر الأخطار المحدقة بهم؛ وقد تكررت هذه الحوادث في الأشهر الماضية كثيراً، خاصة في المناطق التي اندحر منها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بريف حلب الشرقي.
ووقعت حادثة منتصف شهر مارس/آذار، شرقي مدينة سلمية بريف حماه الشرقي، ضمن مناطق سيطرة النظام التي تُعتبر متاخمة لأراضٍ تخضع لـ"داعش"؛ إذ قُتل مزارع من أهالي منطقة عقارب الصافية، عندما انفجر لغمٌ بجراره الزراعي في تلك المنطقة، وهي حادثة سبقتها وقائع عدة مماثلة في تلك المنطقة.
في هذا السياق، تقول الصحافية السورية المقيمة في سلمية شهرزاد الهاشمي لـ"العربي الجديد"، إن "أهالي المنطقة الشرقية لريف السلمية يعانون من وجود الألغام في أراضيهم الزراعية، وهم عاجزون عن تفادي تلك المصيبة، وكثيرٌ منهم هجر العمل في أرضه خشية تعرضهم لانفجار ألغام كثيرة زرعت هناك من قبل جهات عدة سيطرت على المنطقة في فترات سابقة".
ونتيجة العشوائية في زراعة الألغام، فقد باتت الجهات والمليشيات لا تعرف خرائط توزع الألغام، وتقع أحياناً ضحية لزراعتها، كما حصل قبل أشهر، عندما "قتل ضابط إيراني بانفجار لغمٍ يُرجح أن مليشيات موالية لإيران كانت زرعته بريف سلمية، وانسحبت من المنطقة قبل أن تسلم المليشيات التي استلمت تلك الأراضي بعدها خرائط توزع الألغام المزروعة"، بحسب الهاشمي. وتضيف أن "أحد عناصر مليشيات اللجان الشعبية قتل عندما انفجر به لغم قبل أسابيع، بينما كان يجمع الحطب لأغراض التدفئة في أرضٍ زراعية بريف سلمية".
أحد ملّاك الأراضي شرقي مدينة سلمية، ويدعى مصطفى، يشير في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "منذ حوالي ثلاث سنوات، أجبرتني قوات النظام على إخلاء المزارع والأراضي التي أملكها، بحجة أنها منطقة عسكرية. وهناك حملة فيها ضد داعش، ولحد الآن لم نشهد أي شيء من هذا القبيل. وكل ما شهدناه هو تفخيخ الأراضي الزراعية بالألغام؛ فكلما سيطرت مليشيات موالية للنظام على الأراضي لفترة، قامت بزرع الألغام فيها، ولا يعرف أحد الآن خرائط الألغام بشكل مفصل في تلك المنطقة".
ويشتهر تنظيم "داعش" باستخدامه الكثيف لسلاح الألغام، في محيط المناطق التي يدافع عنها ضد قوات تهاجمه، مثل ما حدث بريف حلب الشرقي في الأسابيع الماضية، حين قتل وأصيب عشرات المدنيين في مدينة الباب وريفها، بسبب انفجار ألغامٍ كان زرعها مسلحو التنظيم قبل انسحابهم من تلك المناطق نحو ريف حلب الجنوبي الشرقي الممتد لمحافظة الرقة.
ويقول الدفاع المدني السوري إن عناصره "يحاولون بإمكانياتهم المحدودة، أن يزيلوا مئات الألغام التي زرعها داعش، في المناطق التي خسرها بريف حلب الشرقي، ولكنهم يواجهون صعوبات كبيرة في ذلك، نتيجة ضعف الوسائل التقنية التي يستخدمونها، في حين أن التنظيم زرع الألغام بكثافة في شوارع ومبانٍ بمدينة الباب وريفها".
وفي وقت سابق، شدّد قائد قطاع أعزاز في مديرية الدفاع المدني السوري عبد الكريم بلاو، لـ"العربي الجديد"، على أنه "لا يمرّ يوم من دون أن يسقط ضحايا في مدينة الباب جراء انفجار ألغام، على الرغم من تحذيرات الدفاع المدني السوري المتكررة للسكان، وتنظيمهم لحملاتٍ تعريفية بأشكال الألغام حتى يتجنب المدنيون الاقتراب منها".