شكّل الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية، أحد المحددات في الانتخابات الرئاسية الأميركية في دورتها الأخيرة. وترى تقديرات الخبراء أن الحرب على غزة أدت دوراً أساسياً في توجيه تصويت الجاليات العربية والإسلامية على نحو حاد وصريح، وبرز خلال الأسبوعين الأخيرين من الحملة الانتخابية محاولات كل من المرشحين الرئيسيين، الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطية كامالا هاريس، لاستمالة الناخبين من هذه الفئات، نظراً إلى دورهم في إمالة الكفة إلى هذا الطرف أو ذاك، بسبب الفارق الضيق جداً في الولايات المتأرجحة. بدأ التنافس على الصوت العربي والمسلم في الانتخابات الرئاسية، التي جرت بين هيلاري كلينتون وترامب عام 2016، وتصاعد أكثر في الدورة التي تلتها بين ترامب والرئيس الحالي جو بايدن، لكنها لم تبلغ القدر الذي وصلت إليه هذه الدورة، والسبب في ذلك سلسلة المواقف التي اتخذتها إدارة بايدن منذ وصولها إلى البيت الأبيض. وسجلت إدارة بايدن إخفاقاً كبيراً في الشرق الأوسط، ولم تنجز خلال الأعوام الأربعة ملفاً مهماً، أو تساعد على حل قضية أساسية، بل ساهمت مواقفها وتدخلاتها في تأزيم الوضع وتدهوره، على سبيل المثال في فلسطين، أو تجميده وتوليد صراعات ذات طبيعة محلية تركت الكثير من السلبية، ومثال ذلك سورية، أو الدخول في نزاعات بذريعة الحريات، ولكنها تراجعت، كما هو الحال مع السعودية. وذلك في الوقت الذي حاولت فيه إحياء الاتفاق النووي مع إيران الذي وقعه باراك أوباما وألغاه ترامب.
لم يصدر عن بايدن أو بلينكن أي موقف يخالف صفقة القرن التي كانت تسير باتجاه تصفية القضية الفلسطينية
إدارة بايدن وفلسطين
في فلسطين، كان المأمول أن تحرك إدارة بايدن الوضع عكس المسار الذي أخذته إليه إدارة ترامب، التي طرحت صفقة القرن حلاً للقضية الفلسطينية، ونقلت السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة التي اعترفت بها عاصمة لإسرائيل، ورعت عملية التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. ومن بين ما ضغط من أجله ترامب، ضرورة أن تعترف السلطة الفلسطينية بإسرائيل دولة يهودية، وأن يُطوى ملف حق العودة نهائياً، ويُسقَط حق اللاجئين الفلسطينيين. ولم يصدر عن بايدن أو وزير خارجيته أنتوني بلينكن أي موقف يخالف هذا التوجه الذي كان يسير باتجاه تصفية القضية الفلسطينية، بل على العكس، جعل مسؤولو الإدارة الأميركية الجديدة من عملية التطبيع شاغلهم الأساسي، ووضعوا ثقلهم من أجل دفع بقية الدول العربية إلى الانضمام إلى العملية، خصوصاً السعودية، التي ربطت بين انخراطها في مسار التطبيع واعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية.
ارتكز نهج ترامب على إنهاء التزام الولايات المتحدة اتفاق أوسلو من خلال نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وتبني وجهة النظر الإسرائيلية لحلّ الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال عملية التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل. وعلى هذا ركز كل ثقله على السلطة الفلسطينية من أجل دفعها إلى السير في هذا الطريق، ولذلك مارس عليها ضغوطاً سياسية عبر إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، واقتصادية تمثلت بقطع المساعدات الأميركية الإنسانية عن الشعب الفلسطيني، ومارس الضغط على الدول العربية من أجل اتّباع سياسة الحصار الاقتصادي. والهدف من وراء كل ذلك تركيع السلطة الفلسطينية، وإجبارها على توقيع صفقة القرن.
صحيح أن سلوك إدارة بايدن اختلف عن سابقتها لجهة تخفيف الضغط الاقتصادي، وعدم تطبيق بنود صفقة القرن، ولكنها لم تتحرك من منطلق موقف الحزب الديمقراطي تجاه حل القضية الفلسطينية القائم على حل الدولتين، ولم يراعِ بايدن مسألتين مهمتين: موقف التيار اليساري داخل الحزب الداعم للدولة الفلسطينية، وتصويت الجالية العربية والإسلامية له، على أمل أن يتحرك نحو حل عادل للقضية الفلسطينية، ويتخذ مواقف قريبة من تلك التي اعتمدتها إدارة الرئيس الأسبق أوباما التي شغل فيها بايدن موقع نائب الرئيس. ورغم خلاف الإدارة مع الحكومة الإسرائيلية، فإنها خضعت للابتزاز الإسرائيلي، وتجلى ذلك على نحو صريح خلال الحرب على غزة.
تبنّى بايدن موقفاً صريحاً في تأييد الحرب، بذريعة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ووفر لذلك السبل كافةً للدعم السياسي والعسكري والمادي. ووفّرت إدارة بايدن مظلة سياسية دولية لحرب إسرائيل التي لم تكن متكافئة، وتطورت بعد فترة قصيرة لتأخذ طابع التدمير، ومن ثم انتقلت إلى الإبادة والتجويع من خلال التحكم بالمساعدات الغذائية والطبية، كذلك مدت إسرائيل بكل أنواع الأسلحة من أجل مواصلة الحرب، وعوضتها عن جزء كبير من الخسائر التي تعرّض لها الاقتصاد الإسرائيلي.
إدارة بايدن والملف السوري
الملف الثاني هو السوري، الذي شهد جموداً تاماً منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض عام 2021. وهنا تجدر الإشارة إلى الإدارة السيئة للملف من قبل مساعدي بايدن، خصوصاً بريت ماكغورك، الذي يتولى منصب منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي، والذي انصبّ اهتمامه على الحفاظ على وضع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، التي تسيطر على ثلاث محافظات في شمال شرق سورية، وهي الرقة، ودير الزور، والحسكة، وقد عمل على تعزيز الوجود العسكري الأميركي في هذه المنطقة، التي كانت تتراجع أهميتها بالنسبة إلى إدارة ترامب الذي هدد بسحب القوات الأميركية من هناك، ولم يعارض عام 2019 قيام تركيا بعملية عسكرية، تقدمت بموجبها في ريفي الرقة والحسكة.
وتجدر هنا ملاحظة أمر مهم، وهو أن عدم خوض إدارة بايدن في الشأن السوري يعود في جزء منه إلى طلب إسرائيل المعنية بالملف السوري، بما يتجاوز حسابات الأطراف كافة، روسيا، إيران، وتركيا. وقد تبين من مجريات الأحداث في الأسابيع الأخيرة أنه في وسعها أن تحدث تحولاً يفوق ما يقوم به أي من المؤثرين المباشرين في الوضع. ومن المعروف أنها وضعت قواعد خاصة لذلك، تقوم على التفاهم مع روسيا، وضرب كل ما يهددها من إيران، ورسم خطوط حُمر أمام تركيا، بما فيها عدم الاقتراب من رئيس النظام بشار الأسد. وهناك قاعدة معروفة، وهي أن ما يهمّ إسرائيل تجاه سورية، يهمّ أميركا، ويقع ضمن حساباتهما الثنائية القديمة والمستجدة، لجهة تحجيم دور إيران، وعودة النظام السوري إلى تولي أمن الحدود، وإنهاء كل حضور عسكري لإيران وحزب الله في المناطق الحدودية.
لم تمارس إدارة بايدن أي ضغط مجد على النظام السوري
ولم تمارس إدارة بايدن أي ضغط مجدٍ على النظام السوري، واستمرت على الخط التقليدي الذي ثبت فشله، إذ تفيد حصيلة تجربة الأعوام الأخيرة أن النظام غير متضرر كثيراً من تشديد واشنطن قوانين العقوبات عليه. ولذلك لم يكترث بتصديق مجلس النواب الأميركي، بالأغلبية المطلقة في فبراير/شباط الماضي، على مشروع قانونٍ يجدّد عقوبات "قانون قيصر"، ويمنع الولايات المتحدة من "الاعتراف أو تطبيع العلاقات مع أي حكومة سورية، يقودها بشار الأسد". لم يُجدِ هذا الإجراء في شيء لسببين: الأول، أن النظام يدرك أن القرارات الأميركية لم تُترجم إلى نتائج ملموسة في ما يتعلق بتقديم النظام تنازلاتٍ بخصوص الحلّ السياسي، وفق القرارات الأممية، وخصوصاً قرار مجلس الأمن 2254، الذي أنفقت الأمم المتحدة عدة سنوات من أجل تطبيقه، ولكنها فشلت بسبب مماطلة النظام الذي شارك في اجتماعات اللجنة الدستورية، لكنه رفض كتابة دستور جديد. والسبب الثاني، سقف الضغوط الدولية المنخفض، الذي لم يتجاوز فرض عقوبات، أصبح النظام قادراً على التعايش معها، أو التحايل عليها، بدعم من روسيا وإيران، والدليل على ذلك فتح الباب أمامه للعودة إلى الجامعة العربية من دون أن يقدم أي تنازل في الملفات الأساسية، مثل الابتعاد عن إيران، والقبول بالحل السياسي، وعودة المهجرين اللاجئين إلى دول الجوار.
السعودية وبايدن
ابتعدت السعودية عن الإدارة الأميركية لسببين: الأول، الموقف غير الودي لبايدن من وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، والتصريحات التي صدرت عنه خلال حملته الانتخابية بجعل السعودية منبوذة، بسبب قضية اغتيال الصحافي والكاتب السعودي جمال خاشقجي. والثاني، عملها على إحياء الاتفاق النووي الإيراني، الذي تحفظت عليه الرياض حين وُقِّع عام 2015، وكان إلغاؤه من قبل إدارة ترامب أحد أسباب توثيق العلاقة بينه وبين السعودية.
انحصر سعي واشنطن في أمرين: الأول، جذب السعودية بعيداً عن روسيا والصين، بعد أن توثقت علاقات الرياض بموسكو داخل "أوبك بلاس"، وعلى أثر زيارة بن سلمان لبكين عام 2022، وزيارة الرئيس الصيني للرياض في نهاية العام نفسه، ورعاية الصين الاتفاق بين الرياض وطهران في مارس/آذار 2023. والأمر الثاني، تحقيق اتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل. لم تنجح إدارة بايدن في تحقيق أي من الهدفين. فمن جهة، تطورت العلاقات السعودية مع كل من روسيا والصين بشكل متواصل، وخصوصاً في المجالات الاقتصادية، ومن جهة أخرى فشلت في إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقبول صفقة التطبيع بسبب رفضه الشرط الذي تمسكت به السعودية، وهو "إنهاء الحرب في غزة، والتزام مسار يؤدي إلى حل الدولتين للإسرائيليين والفلسطينيين". وبعد أن نقل مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان تفاصيل الصفقة لنتنياهو بعد اجتماع في جدة مع بن سلمان في مايو/أيار الماضي، رجّح بلينكن أن "إسرائيل غير قادرة، أو غير راغبة في السير في هذا المسار خلال هذه اللحظة"، وبدلاً من أن ينتقد نتنياهو، وجد له التبرير، وسجل نقطة فشل أخرى كبيرة في سجل إدارة بايدن، وهو ما تكرر في محاولتها التوصل إلى وقف إطلاق نار في لبنان، في نهاية الشهر الماضي.