دخلت البلاد العربية منذ العقد الأول من القرن العشرين، مع تعرضها للاستعمار، في مخاض سيرورة تحديثية كثيفة وطويلة الأمد، سيرورة تفاعلت فيها بشكل رفيع صدمتان متداخلتان، وهما صدمة الاستعمار بما تعنيه من زوال السيادة، والانخراط في تبعية سياسية واقتصادية وثقافية عميقة وطويلة المدى، وصدمة الحداثة المبطنة لها، بما تعنيه من تحديث سياسي واقتصادي وتكنولوجي وثقافي، ومن بناء معامل ومواصلات وسدود، وإدخال وسائل الاتصال الحديثة، وتنظيم المدن، وإنشاء إدارات حكومية عصرية، وإدخال نظام التعليم الحديث وغير ذلك.
منذ ذلك الوقت، لم تعد الحداثة مثالاً خارجياً تهفو النخبة العربية لإخراج البلاد بواسطته من تأخرها لتتمكن من مواجهة العدو الخارجي، كما كان الشأن بخصوص المحاولات الإصلاحية التي عرفتها هذه البلاد للخروج من الأزمة ومواجهة التحديات، بل أصبحت إلى حد ما دينامية داخلية تعتمل داخل المجتمع.
وهكذا أصبح المجتمع العربي مشدودا بين ديناميتين قويتين: دينامية التحديث بمنشآته التقنية ومؤسساته الاقتصادية والإدارية ونماذجه الثقافية والفكرية الجديدة، ودينامية التقليد بمؤسساته الاجتماعية وقيمه الثقافية والذهنية الراسخة، وأصبح المجتمع العربي مشدودا بتوتر بين دينامية التجديد والتغيير في أفق تحديثي، ودينامية التثاقل والوفاء للذاكرة وقوة الماضي، وهي السيرورة التي تضاعفت بعد إعلان الاستقلال بوتيرة أكبر وبتغير واضح في طبيعة الفاعلين.*1
اتخذ التحديث منذ البداية طابع سيرورة مطبوعة بالكثير من الحتمية، مست البنيات التحتية مثلما شملت البنيات الفوقية وذلك عبر ثلاثة أبعاد أساسية:
1- البعد الاقتصادي المتمثل في توسع البنيات والمؤسسات والعلاقات والقيم الرأسمالية، والانتشار التدريجي لثقافة ميركانتيلية قوامها تحويل كل شيء إلى بضاعة.
2- البعد التقني المتمثل في ما تحمله التقنية من ثقافة جديدة وتدخل في صراع مع الثقافة التقليدية السائدة في المجتمع.
3- البعد الثقافي الكامن في ما يرسخه وينشره النظام الاقتصادي والتكنولوجي الجديد من معايير وقيم، عبر وسائل الإعلام وقنوات التواصل، والتنشئة الجديدة تحمل مضامين جديدة تغري وتدافع عن نفسها وتحل محل القيم والمعايير التقليدية على نطاق واسع سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي وغيره.
ومن طبيعة مثل هذه التحولات البنيوية أن تحدث تحولات كمية وكيفية عميقة في كافة البنيات التقنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
فهل هذا التحول سيؤدي - كما أدى في دول أوروبية - إلى إعداد الشروط الموضوعية والقانونية والنفسية لإمكان انبثاق دينامية الاستقلال النسبي للفرد، وشعوره بخصوصيته، وبمسؤوليته الشخصية، وبخصوصية مصيره الشخصي؟
كان يعتقد أنه يكفي لتحريك عجلة التنمية والتقدم اللجوء إلى الديناميات التي حركت أوروبا، وهي حرية التفاعل الاقتصادي والمبادرة الفردية، وتأسيس الأعمال والمشاريع الصناعية والإنتاجية، لكن هذا المنطق أخفق بشكل واضح عندنا، لغياب الشروط الحقيقية لحرية التفاعل والمبادرة الفردية وغيرها، فالبنيات التقليدية المتحكمة في مجتمعنا تحول دون قيام هذه الشروط، وأدت إلى فشل نظرية إدارة الاقتصاد انطلاقا من الأساليب التي نجحت في البلدان الأوروبية، وظلت هذه المحاولات في أحسن حالها جزرا متقدمة في محيط من الجمود والبؤس، عاجزة عن تحريك المجتمع بأكمله.
فالمؤسسات والنظم والهياكل التي أدخلها الغرب فشلت لأن البنيات التقليدية المؤطرة للأفراد في مجتمعنا التقليدي المتخلف قاومتها ورفضت إدماجها في سيرورة التفاعل الاجتماعي، فتعثرت عملية التحديث، وتغولت السلطة وانتعشت النزعات التقليدية والمحافظة الرافضة لكل انفتاح وتقدم قد يهدد مصالحها ونفوذها وامتيازاتها.
إن السمة الأساسية لدينامية الحداثة هي توفير شروط استقلالية أكبر للفرد ولوعيه بذاته وبمسؤوليته لتمتيعه بقسط أكبر من حرية الاختيار، فالحداثة تروم تهييء شروط تحرر الفرد من الروابط والإكراهات العتيقة، وتفتح أمامه طيفا أكبر من الاختيارات وقسطا أوسع من الحريات.
وهذا أهم الشروط الاجتماعية الأساسية لانبثاق الفرد الحر المسؤول في أوروبا، وهي القاعدة التي انبني عليها مفهوم الفرد كذات فاعلة في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية كمواطن فاعل وذي حقوق.*2
أما في بلادنا فإن هذه الحداثة لم تؤد لما أدت له في أوروبا. لأن الانخراط في الحداثة كان يعني لدينا مجرد استعمال بعض الآلات التقنية المستوردة، واقتباس لباس الحياة العصرية، ومظاهر الحداثة السياسية بمؤسسات شكلية، بينما خضعت للقمع الديناميات الداخلية التي تروم إكمال البنيات الاجتماعية والثقافية لتيسير عملية انبثاق الفرد الحر الفاعل الذي يشكل رأيا عاما ذكيا عاقلا وواعيا، ذا سلطة ومصدر سلطة في الآن نفسه. فعملية التحديث فقدت أساسها الاجتماعي وأضحت مجرد تحول سطحي بسيط يوظف لترسيخ السلطات والحفاظ على مكاسبها وامتيازاتها، وقابل للارتداد في كل لحظة حين يهم بالانفلات من المراقبة.*3
فالعامل الذي يتحكم في المجتمع ويرسم مساره هو النظام السياسي وحده، وهو الذي يرتبط به النظام الاقتصادي وينبثق منه، ويؤثر به وبغيره من الأدوات في الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى.
وبلادنا خضعت خلال عقود من الزمن لنظم تسلطية تضاد الحداثة، ويعني ذلك أن أجيالا عديدة نشأت وتناسلت في ظل التسلط وآثاره الوخيمة على شخصية الإنسان وعقله ونظرته إلى الحياة عموما وليس إلى السياسة فقط. فالحكم التسلطي جامد يرفض الحداثة والانفتاح، ويضع حجابا على العقل ويمنعه من الانطلاق عندما يحرمه من حرية التفكير والاختيار. واحتكار السلطة من قبل قلة مسيطرة مترسخة في أجهزة ومؤسسات الحكم، يؤدي إلى إقصاء القوى الاجتماعية والسياسية ذات التوجهات المغايرة، وسواء قامت هذه السيطرة من قبل القلة، استنادا إلى علاقات القرابة أو استنادا إلى الجهوية أو الزبونية *4، فإنها تؤدي إلى انغلاق المجال السياسي ومنع ظهور نخب سياسية جديدة. وقمع الحريات والتضييق على المبادرات وكبح المواطنين وتحقيرهم، وتهميش الكفاءات ووأدها.
أدت الحالة إلى "انسداد أفق التغيير السياسي، واستمرار القيود على نشاط الأحزاب الديمقراطية، واحتكار الأحزاب الإدارية للسلطة، واستمرار تزييف إرادة المواطن من خلال انتخابات مزورة، وجنوح ظاهرة أصحاب السلطة والثروة والنفوذ وفئة من هم فوق القانون، وانتشار الفساد والتربح وتعدد حالات الهروب وتهريب الأموال.
في هذا الإطار، لا مجال لممارسة حقوق المواطنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث يسود المناخ العام حالة من الانسداد والتضييق على الحريات وفي مقدمتها حرية التعبير، وأدى كل ذلك إلى إطفاء جذوة الحماس لدى المواطن وأضحى نفوره من الحياة العامة السياسية والاجتماعية ظاهرة عادية، بالرغم مما لهذا النفور من مخاطر وآثار على السياسة والمجتمع والاقتصاد الوطني.*5
الاستبداد ليس مجرد استبداد الحاكم فحسب، بل يتخطاه ليعم المجتمع كله، أي استبداد الحكام والموظفين والأحزاب والقوى المعارضة وسائر المؤسسات الاجتماعية. إذ بدأ الحقن من النظام فسرى في بقية أطراف المجتمع عبر وسائل كثيرة للتلاقح الاستبدادي بدأت من أجهزة الدولة ومؤسساتها وانتهت عند حدود التعاطي بين البشر في حياتهم اليومية حتى داخل الأسرة. مرورا بالمدرسة والجامعة والمسجد وإدارة البلدية والمستشفى والمحكمة وغيرها.
فالتفكير السياسي السائد يفرض الحجر والوصاية على الفكر والثقافة والسلوك المجتمعي في الممارسة السياسية، ويفرض هيمنة لرؤيته الثابتة، ويحاصر العلاقات والمبادرات والاقتراحات المجددة، التي تحاول زحزحة ما هو قائم أو تحجم نفوذه، فاللجوء إلى العقل كآلية للاجتهاد والإبداع وتحكيمه في الممارسة السياسة اليومية كسلطة أصبح بمثابة بدعة في التفكير.*6
ثم جاءت السيطرة المطلقة للسلطة السياسية على التعليم، وخاصة التعليم العالي، بالتضييق على شعب الفلسفة ومسالكها ومعاهدها، واستبدالها بشعب الدراسات الإسلامية، ثم إحكام السيطرة على أجهزة الإعلام كذلك، لتضع يديها على أدوات صياغة الرأي العام، وتمعن في تشويه الوعي الاجتماعي، وتزييف التاريخ وإخضاع العملية الفكرية لسطوة الماضي وتقييدها بالنصوص المنتقاة بعناية حتى تبرر الاستبداد وضرورة الخنوع. فتدريس الفلسفة يرسخ الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، ويمهد الطريق نحو التحرر، وهذا ما يخشاه المتسلطون المستبدون بالرأي الذين يرعبهم بريق الحرية والعدالة والديمقراطية.
والتحسينات الشكلية التي أجريت على شكل الحكم لم تستهدف إجراء أي تغيير في جوهر السلطة، كما أن الانفتاح السياسي المشوه لم يستهدف تحقيق عدالة التوزيع ومشاركة الأغلبية الاجتماعية في عمليات الإنتاج والحكم، فكلما لاح بريق من الأمل في تصحيح الاتجاه والانتقال إلى مرحلة التغيير وتهييء الظروف الملائمة للدخول بالبلاد إلى العصر الذي تعيش فيه وطي صفحة الماضي، تتكاثف قوى الضغط لتحويل المسار نحو الباب المسدود بما يضمن الاستمرار للوضع القائم رغم ما يحبل به من تأزم وشذوذ وتخلف، ورغم ما يثيره من سخط واستياء وتذمر، وتبرز قوة الردع والترهيب كحل لا محيد عنه لحفظ الأمن والاستقرار والتحكم في التوازنات السياسية*7 فتضخم وزارة الداخلية ورعب الهاجس الأمني شكلا عنصر تخريب ذاتي بالنسبة للدولة وبالنسبة لمجتمع كامل متعلق بمصير استقراره وطمأنينته*8 فمبدأ فصل السلطات لم يتحقق أبدا، والبرلمان والقضاء يواجهان دوما تأثيرات وضغوط سلطات الداخلية، والمعارضة ضعيفة الأداء وهشة، لا قاعدة لها، وعاجزة عن التوحد؛ لقد وجدت النخب الحاكمة والتحالفات الاقتصادية والاجتماعية المتضامنة معها أنه ليس من مصلحتها إجراء تحولات ديمقراطية طالما أن مؤسسات الحكم لا تنفصل عن آليات توزيع العوائد المالية.
منذ ذلك الوقت، لم تعد الحداثة مثالاً خارجياً تهفو النخبة العربية لإخراج البلاد بواسطته من تأخرها لتتمكن من مواجهة العدو الخارجي، كما كان الشأن بخصوص المحاولات الإصلاحية التي عرفتها هذه البلاد للخروج من الأزمة ومواجهة التحديات، بل أصبحت إلى حد ما دينامية داخلية تعتمل داخل المجتمع.
وهكذا أصبح المجتمع العربي مشدودا بين ديناميتين قويتين: دينامية التحديث بمنشآته التقنية ومؤسساته الاقتصادية والإدارية ونماذجه الثقافية والفكرية الجديدة، ودينامية التقليد بمؤسساته الاجتماعية وقيمه الثقافية والذهنية الراسخة، وأصبح المجتمع العربي مشدودا بتوتر بين دينامية التجديد والتغيير في أفق تحديثي، ودينامية التثاقل والوفاء للذاكرة وقوة الماضي، وهي السيرورة التي تضاعفت بعد إعلان الاستقلال بوتيرة أكبر وبتغير واضح في طبيعة الفاعلين.*1
اتخذ التحديث منذ البداية طابع سيرورة مطبوعة بالكثير من الحتمية، مست البنيات التحتية مثلما شملت البنيات الفوقية وذلك عبر ثلاثة أبعاد أساسية:
1- البعد الاقتصادي المتمثل في توسع البنيات والمؤسسات والعلاقات والقيم الرأسمالية، والانتشار التدريجي لثقافة ميركانتيلية قوامها تحويل كل شيء إلى بضاعة.
2- البعد التقني المتمثل في ما تحمله التقنية من ثقافة جديدة وتدخل في صراع مع الثقافة التقليدية السائدة في المجتمع.
3- البعد الثقافي الكامن في ما يرسخه وينشره النظام الاقتصادي والتكنولوجي الجديد من معايير وقيم، عبر وسائل الإعلام وقنوات التواصل، والتنشئة الجديدة تحمل مضامين جديدة تغري وتدافع عن نفسها وتحل محل القيم والمعايير التقليدية على نطاق واسع سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي وغيره.
ومن طبيعة مثل هذه التحولات البنيوية أن تحدث تحولات كمية وكيفية عميقة في كافة البنيات التقنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
فهل هذا التحول سيؤدي - كما أدى في دول أوروبية - إلى إعداد الشروط الموضوعية والقانونية والنفسية لإمكان انبثاق دينامية الاستقلال النسبي للفرد، وشعوره بخصوصيته، وبمسؤوليته الشخصية، وبخصوصية مصيره الشخصي؟
كان يعتقد أنه يكفي لتحريك عجلة التنمية والتقدم اللجوء إلى الديناميات التي حركت أوروبا، وهي حرية التفاعل الاقتصادي والمبادرة الفردية، وتأسيس الأعمال والمشاريع الصناعية والإنتاجية، لكن هذا المنطق أخفق بشكل واضح عندنا، لغياب الشروط الحقيقية لحرية التفاعل والمبادرة الفردية وغيرها، فالبنيات التقليدية المتحكمة في مجتمعنا تحول دون قيام هذه الشروط، وأدت إلى فشل نظرية إدارة الاقتصاد انطلاقا من الأساليب التي نجحت في البلدان الأوروبية، وظلت هذه المحاولات في أحسن حالها جزرا متقدمة في محيط من الجمود والبؤس، عاجزة عن تحريك المجتمع بأكمله.
فالمؤسسات والنظم والهياكل التي أدخلها الغرب فشلت لأن البنيات التقليدية المؤطرة للأفراد في مجتمعنا التقليدي المتخلف قاومتها ورفضت إدماجها في سيرورة التفاعل الاجتماعي، فتعثرت عملية التحديث، وتغولت السلطة وانتعشت النزعات التقليدية والمحافظة الرافضة لكل انفتاح وتقدم قد يهدد مصالحها ونفوذها وامتيازاتها.
إن السمة الأساسية لدينامية الحداثة هي توفير شروط استقلالية أكبر للفرد ولوعيه بذاته وبمسؤوليته لتمتيعه بقسط أكبر من حرية الاختيار، فالحداثة تروم تهييء شروط تحرر الفرد من الروابط والإكراهات العتيقة، وتفتح أمامه طيفا أكبر من الاختيارات وقسطا أوسع من الحريات.
وهذا أهم الشروط الاجتماعية الأساسية لانبثاق الفرد الحر المسؤول في أوروبا، وهي القاعدة التي انبني عليها مفهوم الفرد كذات فاعلة في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية كمواطن فاعل وذي حقوق.*2
أما في بلادنا فإن هذه الحداثة لم تؤد لما أدت له في أوروبا. لأن الانخراط في الحداثة كان يعني لدينا مجرد استعمال بعض الآلات التقنية المستوردة، واقتباس لباس الحياة العصرية، ومظاهر الحداثة السياسية بمؤسسات شكلية، بينما خضعت للقمع الديناميات الداخلية التي تروم إكمال البنيات الاجتماعية والثقافية لتيسير عملية انبثاق الفرد الحر الفاعل الذي يشكل رأيا عاما ذكيا عاقلا وواعيا، ذا سلطة ومصدر سلطة في الآن نفسه. فعملية التحديث فقدت أساسها الاجتماعي وأضحت مجرد تحول سطحي بسيط يوظف لترسيخ السلطات والحفاظ على مكاسبها وامتيازاتها، وقابل للارتداد في كل لحظة حين يهم بالانفلات من المراقبة.*3
فالعامل الذي يتحكم في المجتمع ويرسم مساره هو النظام السياسي وحده، وهو الذي يرتبط به النظام الاقتصادي وينبثق منه، ويؤثر به وبغيره من الأدوات في الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى.
وبلادنا خضعت خلال عقود من الزمن لنظم تسلطية تضاد الحداثة، ويعني ذلك أن أجيالا عديدة نشأت وتناسلت في ظل التسلط وآثاره الوخيمة على شخصية الإنسان وعقله ونظرته إلى الحياة عموما وليس إلى السياسة فقط. فالحكم التسلطي جامد يرفض الحداثة والانفتاح، ويضع حجابا على العقل ويمنعه من الانطلاق عندما يحرمه من حرية التفكير والاختيار. واحتكار السلطة من قبل قلة مسيطرة مترسخة في أجهزة ومؤسسات الحكم، يؤدي إلى إقصاء القوى الاجتماعية والسياسية ذات التوجهات المغايرة، وسواء قامت هذه السيطرة من قبل القلة، استنادا إلى علاقات القرابة أو استنادا إلى الجهوية أو الزبونية *4، فإنها تؤدي إلى انغلاق المجال السياسي ومنع ظهور نخب سياسية جديدة. وقمع الحريات والتضييق على المبادرات وكبح المواطنين وتحقيرهم، وتهميش الكفاءات ووأدها.
أدت الحالة إلى "انسداد أفق التغيير السياسي، واستمرار القيود على نشاط الأحزاب الديمقراطية، واحتكار الأحزاب الإدارية للسلطة، واستمرار تزييف إرادة المواطن من خلال انتخابات مزورة، وجنوح ظاهرة أصحاب السلطة والثروة والنفوذ وفئة من هم فوق القانون، وانتشار الفساد والتربح وتعدد حالات الهروب وتهريب الأموال.
في هذا الإطار، لا مجال لممارسة حقوق المواطنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث يسود المناخ العام حالة من الانسداد والتضييق على الحريات وفي مقدمتها حرية التعبير، وأدى كل ذلك إلى إطفاء جذوة الحماس لدى المواطن وأضحى نفوره من الحياة العامة السياسية والاجتماعية ظاهرة عادية، بالرغم مما لهذا النفور من مخاطر وآثار على السياسة والمجتمع والاقتصاد الوطني.*5
الاستبداد ليس مجرد استبداد الحاكم فحسب، بل يتخطاه ليعم المجتمع كله، أي استبداد الحكام والموظفين والأحزاب والقوى المعارضة وسائر المؤسسات الاجتماعية. إذ بدأ الحقن من النظام فسرى في بقية أطراف المجتمع عبر وسائل كثيرة للتلاقح الاستبدادي بدأت من أجهزة الدولة ومؤسساتها وانتهت عند حدود التعاطي بين البشر في حياتهم اليومية حتى داخل الأسرة. مرورا بالمدرسة والجامعة والمسجد وإدارة البلدية والمستشفى والمحكمة وغيرها.
فالتفكير السياسي السائد يفرض الحجر والوصاية على الفكر والثقافة والسلوك المجتمعي في الممارسة السياسية، ويفرض هيمنة لرؤيته الثابتة، ويحاصر العلاقات والمبادرات والاقتراحات المجددة، التي تحاول زحزحة ما هو قائم أو تحجم نفوذه، فاللجوء إلى العقل كآلية للاجتهاد والإبداع وتحكيمه في الممارسة السياسة اليومية كسلطة أصبح بمثابة بدعة في التفكير.*6
ثم جاءت السيطرة المطلقة للسلطة السياسية على التعليم، وخاصة التعليم العالي، بالتضييق على شعب الفلسفة ومسالكها ومعاهدها، واستبدالها بشعب الدراسات الإسلامية، ثم إحكام السيطرة على أجهزة الإعلام كذلك، لتضع يديها على أدوات صياغة الرأي العام، وتمعن في تشويه الوعي الاجتماعي، وتزييف التاريخ وإخضاع العملية الفكرية لسطوة الماضي وتقييدها بالنصوص المنتقاة بعناية حتى تبرر الاستبداد وضرورة الخنوع. فتدريس الفلسفة يرسخ الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، ويمهد الطريق نحو التحرر، وهذا ما يخشاه المتسلطون المستبدون بالرأي الذين يرعبهم بريق الحرية والعدالة والديمقراطية.
والتحسينات الشكلية التي أجريت على شكل الحكم لم تستهدف إجراء أي تغيير في جوهر السلطة، كما أن الانفتاح السياسي المشوه لم يستهدف تحقيق عدالة التوزيع ومشاركة الأغلبية الاجتماعية في عمليات الإنتاج والحكم، فكلما لاح بريق من الأمل في تصحيح الاتجاه والانتقال إلى مرحلة التغيير وتهييء الظروف الملائمة للدخول بالبلاد إلى العصر الذي تعيش فيه وطي صفحة الماضي، تتكاثف قوى الضغط لتحويل المسار نحو الباب المسدود بما يضمن الاستمرار للوضع القائم رغم ما يحبل به من تأزم وشذوذ وتخلف، ورغم ما يثيره من سخط واستياء وتذمر، وتبرز قوة الردع والترهيب كحل لا محيد عنه لحفظ الأمن والاستقرار والتحكم في التوازنات السياسية*7 فتضخم وزارة الداخلية ورعب الهاجس الأمني شكلا عنصر تخريب ذاتي بالنسبة للدولة وبالنسبة لمجتمع كامل متعلق بمصير استقراره وطمأنينته*8 فمبدأ فصل السلطات لم يتحقق أبدا، والبرلمان والقضاء يواجهان دوما تأثيرات وضغوط سلطات الداخلية، والمعارضة ضعيفة الأداء وهشة، لا قاعدة لها، وعاجزة عن التوحد؛ لقد وجدت النخب الحاكمة والتحالفات الاقتصادية والاجتماعية المتضامنة معها أنه ليس من مصلحتها إجراء تحولات ديمقراطية طالما أن مؤسسات الحكم لا تنفصل عن آليات توزيع العوائد المالية.
*1 سبيلا، محمد: الفلسفة والتحولات الاجتماعية، مقال بجريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 18 نوفمبر 2006.
*2 سبيلا، محمد: المرجع نفسه
*3 سبيلا، محمد: اختزال الفرد لأجل الجماعة، مجلة النور لندن (عدد 178سنة 2006).
*4 الناصري، محمد: مراقبة المجال الترابي أو تنميته؛ ضمن التحولات الاجتماعية بالمغرب، مركز طارق بن زياد للدراسات 2000 ص 54.
*5 العلمي، عبد القادر: هاجس التغيير الديمقراطي؛ سلسلة شراع عدد 16 يوليو 1997 ص 24.
*6 غانمي، عبد الرحمان: العقل المغربي السائد؛ جريدة المغربية 26 يناير 2008.
*7 العلمي، عبد القادر، مرجع سابق ص 38 وص 108.
*8 نجمي، حسن: الناس والسلطة؛ كتاب الشهر، سلسلة شراع عدد13 مارس 1997 ص 36.
(المغرب)