04 نوفمبر 2024
عندما تتجدّد "النهضة" في تونس
أعلن حزب النهضة، قبل أيام، عن قائمة أعضاء مكتبه السياسي الجديد، وهو أهم جسم تنظيمي في الحركة، وقد ضم، بشكل لافت ولأول مرة، عناصر جاءوا من مساراتٍ مختلفة، فبعضهم لم يجرب التحزّب من قبل، وربما "السياسة" أصلاً، وآخرون تمرسوا فيها من خلال تجارب حزبية متعددة، وهناك من عاد إلى حضنه الأول، بعد أن خاض تجارب مختلفة، بدأت تاريخياً في ثمانينيات القرن الفارط بحركة الاتجاه الإسلامي التي غادرها لأسباب مختلفة، لعل أهمها التحفظات الفكرية على التراث الإخواني الذي طبعها آنذاك.
علينا، حتى نفهم خلفية هذا التعزيز وتبعاته المستقبلية، أن نتذكّر أن تركيبة المكتب السياسي قد أثارت، منذ المؤتمر العاشر للحركة الذي عقد في بداية الصيف الفارط، آراء وتباينات داخل نواب المؤتمر، ما أدى إلى ابتعاد بعض قيادات الحركة عن الهياكل القيادية، وقد نادوا بتبني "الحوكمة"، ومنها أساساً انتخاب تلك الهياكل بالذات، وكان تجاوز الخلاف شاقاً، مثلما نقل الملاحظون، وأقرّه حتى أبناء الحركة، بل ذهب بعض هؤلاء إلى حد مقاطعة المؤتمر برمته.
يمنحنا هذا الاستحضار فرصاً أفضل، لفهم ردود الأفعال المختلفة التي أثارها وفود هؤلاء بالذات إلى المكتب السياسي، أي القادمون من خارج جسم الحركة وهياكله التقليدية المتعارف عليها، والتي لم تعد محل إجماع، بل كانت سبباً مباشراً في الخلافات التي طفت على السطح، في أثناء المؤتمر المشار إليه، أو حتى بعده. وعلينا أن نستحضر أيضاً أن هذا التعزيز اختاره زعيم الحركة، الشيخ راشد الغنوشي، وهو المخوّل له قانوناً، إلى الآن، تشكيل المكتب السياسي، بعد أن أقرت الحركة في مؤتمرها الفارط فصل الدعوي عن السياسي، ما كان من تبعاته استبعاد وجوهٍ محسوبة على دعاة الضم بينهما. انسحب هؤلاء واختفوا تدريجياً من المشهد، من دون أي ضجة، وكأنه تم التفاوض معهم في ترتيب هذا الخروج الهادئ.
يحدث ذلك كله في "النهضة" بكثير من الانضباط والنعومة التي أثبتت فيها هذه الحركة قدرتها على إدارة الخلاف داخلها، بل وانضباط هؤلاء المخالفين "خط الشيخ راشد الغنوشي"، والتزامهم قواعد اللعبة. يشكل هذا السلوك، ولا شك، نشازاً في ساحةٍ سياسيةٍ، سمتها التشرذم وافتقاد الحد الأدنى الأخلاقي المشترك بين أعضاء الحزب الواحد، ويقدّم حزب نداء تونس النموذج المثالي لهذه الحالة.
تستمد "النهضة" كل تلك القوة من تربيةٍ حزبيةٍ منضبطةٍ، تشدّد على أن "الذئب يأكل من الغنم القاصية"، وأن المحيط السياسي الوطني والدولي متحرّش بهم، وأن "لا تفرقوا فتذهب ريحكم". ولكن، ستجد "النهضة"، في السنوات المقبلة، معضلةً في استدامة تلك الروح الحزبية المنضبطة، وهي التي قد تتخلى عن التنشئة الدينية السياسية التي كانت تربي عليها قواعدها، فضلا عن قيادتها، إذا ما ذهبت بعيداً في فصل الديني عن السياسي، ما قد يدفعها مستقبلا عن البحث عن موارد جديدة، تعوّض بها تلك التربية الحزبية التي ضمنت لها تماسكها المتين، على الرغم مما عرفتها من انسلاخاتٍ، لم تكن ذات أثر تنظيمي يذكر، ما عدا بعض الآثار الرمزية الطفيفة.
كانت ردود الأفعال من داخل الحركة، أو من خارجها، مختلفة، متراوحة عادةً بين الاستهجان
والمباركة، فالموقف الأول صدر عن قواعد، وإن كانت قليلة، تعتقد أن هؤلاء الأعضاء "الأجانب" يشوّشون على الحركة صفاءها ونقاءها. لقد قدموا من خارج رحم المعاناة السجنية والتشريد والنفي، فهؤلاء لم يمرّوا بما مرّ به أبناؤها من محن، على الرغم من أنه كانت لبعض منهم تجارب حزبية متقدّمة نضالية في عهد بن علي، أي المناضلون القادمون من الحزب الديموقراطي التقدمي تحديداً. في حين، رأى آخرون من خارج "النهضة" أن ذلك يعود إلى ظاهرة السياحة الحزبية التي عرفتها البلاد، منذ انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011، والذي تغذيه استراتيجية فردية، تحرص على ركوب المصاعد السياسية الأكثر ضماناً، وهي قراءة تغفل، في اعتقادي، دينامية المشهد الحزبي عموماً.
يأتي هذا التعزيز ليؤكد أن الحركة تسعى، بخطوطٍ حثيثة، إلى التخلص من الصيغة العقائدية والتحول إلى الصبغة السياسية، فالأولى تقوم على شعائر التنشئة الدينية السياسية، حيث يقوم الدرج في المراتب التنظيمية، مثلاً، على قواعد العقائد والخصال الأخلاقية وطقوس وشعائر الولاء، في حين أن الثانية تقوم على الكفاءة والجدارة والتنافس وتثمين الموارد الفردية وتعبئتها، خصوصاً أن الحركة، تحت الضغط المحلي والدولي، تسعى جاهدةً إلى تبديد شبهة الانتماء إلى "الإخوان المسلمين" على الأقل تنظيمياً.
ستظل هذه المبادرة بمثابة التجربة المخبرية، ولا ندري تحديداً مآلاتها. وقد تتحول إلى نقلة تاريخية في تجربة التنظيم الذي سيبدو مفتوحاً وشفافاً، وهو ليس دهاليز تتربى في ظلماتها القيادات. وقد كانت قيادات "النهضة"، إلى حد قريب، مثل بقية الأحزاب السرية، غير معروفة الملامح والقسمات، بل الأسماء أصلا. ولعل أسماء حركية لدى بعضهم، وهم حتى في مناصب سياسية علنية.
ستكون كل هذه الاحتمالات محدّدة أيضاً بحجم هؤلاء الوافدين الجدد، وقدرتهم على الإضافة والابتكار، وضخ دماء جديدة من خارج جسمٍ بدأت بعض خلاياه تشيخ، طالبة التجديد، حتى لو على حساب صفائها الجيني.
علينا، حتى نفهم خلفية هذا التعزيز وتبعاته المستقبلية، أن نتذكّر أن تركيبة المكتب السياسي قد أثارت، منذ المؤتمر العاشر للحركة الذي عقد في بداية الصيف الفارط، آراء وتباينات داخل نواب المؤتمر، ما أدى إلى ابتعاد بعض قيادات الحركة عن الهياكل القيادية، وقد نادوا بتبني "الحوكمة"، ومنها أساساً انتخاب تلك الهياكل بالذات، وكان تجاوز الخلاف شاقاً، مثلما نقل الملاحظون، وأقرّه حتى أبناء الحركة، بل ذهب بعض هؤلاء إلى حد مقاطعة المؤتمر برمته.
يمنحنا هذا الاستحضار فرصاً أفضل، لفهم ردود الأفعال المختلفة التي أثارها وفود هؤلاء بالذات إلى المكتب السياسي، أي القادمون من خارج جسم الحركة وهياكله التقليدية المتعارف عليها، والتي لم تعد محل إجماع، بل كانت سبباً مباشراً في الخلافات التي طفت على السطح، في أثناء المؤتمر المشار إليه، أو حتى بعده. وعلينا أن نستحضر أيضاً أن هذا التعزيز اختاره زعيم الحركة، الشيخ راشد الغنوشي، وهو المخوّل له قانوناً، إلى الآن، تشكيل المكتب السياسي، بعد أن أقرت الحركة في مؤتمرها الفارط فصل الدعوي عن السياسي، ما كان من تبعاته استبعاد وجوهٍ محسوبة على دعاة الضم بينهما. انسحب هؤلاء واختفوا تدريجياً من المشهد، من دون أي ضجة، وكأنه تم التفاوض معهم في ترتيب هذا الخروج الهادئ.
يحدث ذلك كله في "النهضة" بكثير من الانضباط والنعومة التي أثبتت فيها هذه الحركة قدرتها على إدارة الخلاف داخلها، بل وانضباط هؤلاء المخالفين "خط الشيخ راشد الغنوشي"، والتزامهم قواعد اللعبة. يشكل هذا السلوك، ولا شك، نشازاً في ساحةٍ سياسيةٍ، سمتها التشرذم وافتقاد الحد الأدنى الأخلاقي المشترك بين أعضاء الحزب الواحد، ويقدّم حزب نداء تونس النموذج المثالي لهذه الحالة.
تستمد "النهضة" كل تلك القوة من تربيةٍ حزبيةٍ منضبطةٍ، تشدّد على أن "الذئب يأكل من الغنم القاصية"، وأن المحيط السياسي الوطني والدولي متحرّش بهم، وأن "لا تفرقوا فتذهب ريحكم". ولكن، ستجد "النهضة"، في السنوات المقبلة، معضلةً في استدامة تلك الروح الحزبية المنضبطة، وهي التي قد تتخلى عن التنشئة الدينية السياسية التي كانت تربي عليها قواعدها، فضلا عن قيادتها، إذا ما ذهبت بعيداً في فصل الديني عن السياسي، ما قد يدفعها مستقبلا عن البحث عن موارد جديدة، تعوّض بها تلك التربية الحزبية التي ضمنت لها تماسكها المتين، على الرغم مما عرفتها من انسلاخاتٍ، لم تكن ذات أثر تنظيمي يذكر، ما عدا بعض الآثار الرمزية الطفيفة.
كانت ردود الأفعال من داخل الحركة، أو من خارجها، مختلفة، متراوحة عادةً بين الاستهجان
يأتي هذا التعزيز ليؤكد أن الحركة تسعى، بخطوطٍ حثيثة، إلى التخلص من الصيغة العقائدية والتحول إلى الصبغة السياسية، فالأولى تقوم على شعائر التنشئة الدينية السياسية، حيث يقوم الدرج في المراتب التنظيمية، مثلاً، على قواعد العقائد والخصال الأخلاقية وطقوس وشعائر الولاء، في حين أن الثانية تقوم على الكفاءة والجدارة والتنافس وتثمين الموارد الفردية وتعبئتها، خصوصاً أن الحركة، تحت الضغط المحلي والدولي، تسعى جاهدةً إلى تبديد شبهة الانتماء إلى "الإخوان المسلمين" على الأقل تنظيمياً.
ستظل هذه المبادرة بمثابة التجربة المخبرية، ولا ندري تحديداً مآلاتها. وقد تتحول إلى نقلة تاريخية في تجربة التنظيم الذي سيبدو مفتوحاً وشفافاً، وهو ليس دهاليز تتربى في ظلماتها القيادات. وقد كانت قيادات "النهضة"، إلى حد قريب، مثل بقية الأحزاب السرية، غير معروفة الملامح والقسمات، بل الأسماء أصلا. ولعل أسماء حركية لدى بعضهم، وهم حتى في مناصب سياسية علنية.
ستكون كل هذه الاحتمالات محدّدة أيضاً بحجم هؤلاء الوافدين الجدد، وقدرتهم على الإضافة والابتكار، وضخ دماء جديدة من خارج جسمٍ بدأت بعض خلاياه تشيخ، طالبة التجديد، حتى لو على حساب صفائها الجيني.