03 سبتمبر 2024
عندما يتحوّل الفلسطينيون أعداء لأنفسهم
سامية عيسى
تشهد الساحة الفلسطينية مزيداً من التخبط، ربما هو مخاض عسير، ما قبل الصحوة الفلسطينية الشاملة أو موت سريري دائم، فبعد القرار اللاقانوني بحل المجلس التشريعي، يطرح اليوم تشكيل حكومة فلسطينية فصائلية، إضافة إلى شخصيات مستقلة، على الرغم من أن الفصائل نفسها، لا سيما حركتي فتح وحماس وما بينهما، أساس المشكلة، فقد فقدت هذه الفصائل أساسا مبرّرات وجودها على الساحة الفلسطينية منذ زمن بعيد، وعاجزة أصلا عن تقديم أي جديد على المستويين الفكري والنضالي، ما أدى ويؤدي إلى حالة هلامية زلقة، تأخذ الشعب الفلسطيني إلى مستقبل مظلم وخطير.
لا يمكن اليوم المراهنة على هذه الفصائل التي باتت عبئاً يشل أي مشروع وطني نضالي جديد. والخلاص بالتأكيد لن يأتي عبر هذه الفصائل، بل سيفاقم حالة الضياع ويوسع دائرة المتاهة، سيما مع كل هذا التدهور السياسي الذي تشهده المنطقة العربية، ومع ما يخطط له من تصفيةٍ تامة للقضية الفلسطينية، وتحت عناوين عدة، أولها ما تسمى صفقة القرن.
لم يأت انسداد الأفق السياسي والوطني من اتفاقية أوسلو، بل هو نتاج له. انسداد الأفق السياسي ناجم عن المنهج المتخلف الذي تنتهجه هذه الفصائل، وفي مقدمتها حركتا فتح وحماس وما بينهما. هذا حدث منذ زمن بعيد، وما قبل "أوسلو" بكثير. منذ خسارة الثورة الفلسطينية وجودها في الأردن، ومن ثم لبنان، مع الاحترام الشديد لنضالات أبناء الشعب الفلسطيني وتضحياته، في تلك الفترة من عمر القضية. وما الهزيمة التي تلقتها الثورة الفلسطينية في العام 1982 أمام الاجتياح الإسرائيلي إلا نتيجة طبيعية من صنع قياداتها التي غرقت في الفساد السياسي والمالي والترهل، وسلوكيات الاستزلام والمحسوبية، بهدف حشد القوة وزيادة النفوذ الداخلي على حساب قيادات وقوى أخرى، بالتوازي مع تراجع الكفاح المسلح خيارا نادى به
الجميع، وتتحمّل حركة فتح حصة كبيرة منه، إلا من بعض تجارب رائدة، كتجربة الكتيبة الطلابية وبعض الجيوب والقيادات في كتائب أخرى، ناهيك عن الدور السوري والعربي الذي ساهم ولا يزال في إنهاك الثورة الفلسطينية، سيما في لبنان، فضلا عن التورّط الشديد للثورة الفلسطينية في الوضع اللبناني في زمن الحرب الأهلية.
لم تهزم الثورة الفلسطينية بكل فصائلها أمام إسرائيل العام 1982، بل هزمت أمام نفسها وأمام خطايا أقلها إضاعة الفرصة حين كانت سانحة، عن تطوير مشروعها النضالي الوطني، وتطوير القوى الذاتية للشعب الفلسطيني، سيما حين كانت تملك من الأموال ما لم تملكه أي ثورة سابقة أو حالية، وكانت تطلق عليها تسميات عدة، من قبيل "الثورة المترفة". تم آنذاك إسكات البندقية أو إخفاض صوتها، أو استخدامها للضغط السياسي لا أكثر. وقد عانى مناضلون مخلصون كثيرون من صعوبة الحصول على الدعم العسكري والسلاح الفعال لمواصلة النضال وتوجيه البندقية للعدو الصهيوني.
هذا حصل في بعض منه، وبدأ يحصل، بعدما قرّرت قيادة منظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أي أرض يتم "تحريرها"! وانقسمت الساحة الفلسطينية إذ ذاك إلى جبهتي رفض وقبول للمشروع الذي نجم عن انعقاد المجلس الوطني العام 1974. طبعاً، مع دعم أطراف عربية هذه الجبهة أو تلك، واستغلال هذا الخلاف أبشع استغلال وبأشكال خطيرة. وهذه ليست كل القصة، ولا نهايتها، وربما ليست بدايتها. أيضاً لم يطرأ على أوضاع الشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء أي تحسّن لناحية الوضع القانوني في لبنان، و/ أو الحياة السكنية والمعيشية والاستشفائية، كبناء مدارس أو مصانع ومراكز إنتاج كاستثمارات للمستقبل، تمول نفسها بنفسها، بل تمول الثورة وحاجيات الشعب الفلسطيني بكل تجمعاته، وتجنبه البقاء تحت رحمة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) أو دعم الأنظمة العربية، وتحرره من قيود القوانين الجائرة للدول المضيفة، لا سيما في لبنان، وحيث كانت القيادة الفلسطينية تملك المال والعتاد للأيام السوداء.
أوصلت هذه المنهجية القاصرة (عمدا أو عن غير عمد) التي حكمت سلوك القيادة السياسية الفلسطينية، بغالبيتها العظمى، الفلسطينيين اليوم إلى ما هم عليه الآن من تخبط وفقدان للبوصلة، والعجز عن تطوير مشروع وطني نضالي جديد، علما أن حركة حماس كانت نتاج تلك المرحلة الكئيبة من تجربة الثورة الفلسطينية، ولا يعفيها مما جاءت عليه السطور أعلاه لبوسها لباس الدين من خطايا مشابهة، بل أكثر سوءا مما حدث ما قبل "أوسلو"، والتي أتت للأسف على أكتاف الانتفاضة الفلسطينية النبيلة، وجيّرتها هذه الفصائل نفسها لمنافع شخصية ضيقة، لا تتجاوز الدوائر الضيقة للقيادات الفلسطينية وبطانتها، التي غرقت بطين الفساد. قال الفلسطينيون كلمتهم في الانتفاضة الأولى ثم الثانية، من دون حاجة لتلقي دعم من أحد. وكانت الانتفاضة رداً على الحصار والتهميش الذي كانت تواجهه القضية الفلسطينية عربياً ودولياً، بعد تغليب التناقضات العربية العربية، وبعد مجازر بأيد عربية في أغلبيتها، في مقدمتها حرب المخيمات.
يواجه الفلسطينيون اليوم وضعا شبيها بما شهدته إبّان الانتفاضة، وإن يكن أكثر خطورة بما لا يقاس. ومعه يصبح النقاش عن المصالحة، أو الانتخابات التشريعية، أو تشكيل حكومة جديدة فارغاً من أي معنى، فهو ما زال يدور ويعود لإنتاج الحالة نفسها، أو إعادة استخدام الفصائل التي أوصلتنا إلى هذه الحالة من الضياع والتخبط. هو نقاش أجوف، يدور في حلقة مفرغة، لن يؤدي سوى إلى مزيد من التدهور، حيث لا يوجد من يوقف عجلة السقوط في الهاوية، فالوضع الفلسطيني اليوم في حالة عداء مع نفسه. نعم لا ننسى ولن ننسى الاحتلال الصهيوني لفلسطين مسببا، والإخوة الأعداء والأعداء الدوليين، وهؤلاء كثيرون، وكانوا موجودون دائماً للانقضاض، ولكن لا يستطيع الفلسطينيون، بعد اليوم، تبرير هزائمهم أمام عدوهم أو أعدائهم، حين صاروا هم العدو لأنفسهم: إما بالاستسلام لظواهر الفساد السياسي والمالي والإداري أو
تورّطهم فيها، أو مواصلة الانقسام ليس بين حركتي فتح وحماس فقط، بل هي أشبه بفيروس يتنقل داخل التجمعات الفلسطينية تحت مسميات عدة، وليس فصائلية فحسب، أيضا مواصلة حالة اللامبالاة أو الاستسلام للوضع الراهن وتبادل الاتهامات، وكأن الأمر لا يعني الشاب أو الشابة أو الكهل أو حتى الطفل الرضيع.
الأوضاع صعبة ومعقدة، ولكنها لم تكن يوما على غير ذلك. هنالك أزمة، ولكن في كل أزمة فرصة لإيجاد مخرج. مخرج يليق بالفلسطينيين الذي قال عنهم زعيمهم الراحل ياسر عرفات إنهم شعب الجبارين، وهم فعلا كذلك. ربما أننا إزاء مخاض فلسطيني عسير ما قبل الولادة، ولكن الجنين لن يولد بمفرده، بل يحتاج إلى نفس عميق، ثم صرخة عالية تعطيه فرحة الحياة.
إن لم يولد الفلسطينيون الآن، سيقتلون أنفسهم في رحم فلسطين. هم اليوم أمام هذا الخيار الذي لا خيار آخر غيره.
مشروع وطني نضالي جديد يتجاوز التحديات، ضمن رؤية نضالية عصرية منفتحة، ومتعدّدة الأوجه، وعقلية سياسية جديدة، ترمي إلى سلة المهملات كل السلوكيات والممارسات التي أدت إلى ما هم عليه اليوم، وإلى غير رجعة، وأن يضعوا نصب أعينهم، سياسيين كانوا أم اقتصاديين أم أهل علم وقانون وثقافة وفنون، مستقبل أبنائهم وبناتهم وأحفادهم من بعدهم حتى الجيل العاشر لو احتاج الأمر كل هذا الوقت. وأن تكون الوحدة الوطنية نبراسهم، ومبدأ مقدسا يحكم علاقاتهم، مهما اشتدت الخلافات أو تعدّدت الرؤى. المخاض عسير، لكن الولادة لا بد ستحدث، وربما تكون فلسطين صاحبة البشارة لصحوة عربية أكثر تنظيما وجذريةً وبراعة.
لم يأت انسداد الأفق السياسي والوطني من اتفاقية أوسلو، بل هو نتاج له. انسداد الأفق السياسي ناجم عن المنهج المتخلف الذي تنتهجه هذه الفصائل، وفي مقدمتها حركتا فتح وحماس وما بينهما. هذا حدث منذ زمن بعيد، وما قبل "أوسلو" بكثير. منذ خسارة الثورة الفلسطينية وجودها في الأردن، ومن ثم لبنان، مع الاحترام الشديد لنضالات أبناء الشعب الفلسطيني وتضحياته، في تلك الفترة من عمر القضية. وما الهزيمة التي تلقتها الثورة الفلسطينية في العام 1982 أمام الاجتياح الإسرائيلي إلا نتيجة طبيعية من صنع قياداتها التي غرقت في الفساد السياسي والمالي والترهل، وسلوكيات الاستزلام والمحسوبية، بهدف حشد القوة وزيادة النفوذ الداخلي على حساب قيادات وقوى أخرى، بالتوازي مع تراجع الكفاح المسلح خيارا نادى به
لم تهزم الثورة الفلسطينية بكل فصائلها أمام إسرائيل العام 1982، بل هزمت أمام نفسها وأمام خطايا أقلها إضاعة الفرصة حين كانت سانحة، عن تطوير مشروعها النضالي الوطني، وتطوير القوى الذاتية للشعب الفلسطيني، سيما حين كانت تملك من الأموال ما لم تملكه أي ثورة سابقة أو حالية، وكانت تطلق عليها تسميات عدة، من قبيل "الثورة المترفة". تم آنذاك إسكات البندقية أو إخفاض صوتها، أو استخدامها للضغط السياسي لا أكثر. وقد عانى مناضلون مخلصون كثيرون من صعوبة الحصول على الدعم العسكري والسلاح الفعال لمواصلة النضال وتوجيه البندقية للعدو الصهيوني.
هذا حصل في بعض منه، وبدأ يحصل، بعدما قرّرت قيادة منظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أي أرض يتم "تحريرها"! وانقسمت الساحة الفلسطينية إذ ذاك إلى جبهتي رفض وقبول للمشروع الذي نجم عن انعقاد المجلس الوطني العام 1974. طبعاً، مع دعم أطراف عربية هذه الجبهة أو تلك، واستغلال هذا الخلاف أبشع استغلال وبأشكال خطيرة. وهذه ليست كل القصة، ولا نهايتها، وربما ليست بدايتها. أيضاً لم يطرأ على أوضاع الشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء أي تحسّن لناحية الوضع القانوني في لبنان، و/ أو الحياة السكنية والمعيشية والاستشفائية، كبناء مدارس أو مصانع ومراكز إنتاج كاستثمارات للمستقبل، تمول نفسها بنفسها، بل تمول الثورة وحاجيات الشعب الفلسطيني بكل تجمعاته، وتجنبه البقاء تحت رحمة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) أو دعم الأنظمة العربية، وتحرره من قيود القوانين الجائرة للدول المضيفة، لا سيما في لبنان، وحيث كانت القيادة الفلسطينية تملك المال والعتاد للأيام السوداء.
أوصلت هذه المنهجية القاصرة (عمدا أو عن غير عمد) التي حكمت سلوك القيادة السياسية الفلسطينية، بغالبيتها العظمى، الفلسطينيين اليوم إلى ما هم عليه الآن من تخبط وفقدان للبوصلة، والعجز عن تطوير مشروع وطني نضالي جديد، علما أن حركة حماس كانت نتاج تلك المرحلة الكئيبة من تجربة الثورة الفلسطينية، ولا يعفيها مما جاءت عليه السطور أعلاه لبوسها لباس الدين من خطايا مشابهة، بل أكثر سوءا مما حدث ما قبل "أوسلو"، والتي أتت للأسف على أكتاف الانتفاضة الفلسطينية النبيلة، وجيّرتها هذه الفصائل نفسها لمنافع شخصية ضيقة، لا تتجاوز الدوائر الضيقة للقيادات الفلسطينية وبطانتها، التي غرقت بطين الفساد. قال الفلسطينيون كلمتهم في الانتفاضة الأولى ثم الثانية، من دون حاجة لتلقي دعم من أحد. وكانت الانتفاضة رداً على الحصار والتهميش الذي كانت تواجهه القضية الفلسطينية عربياً ودولياً، بعد تغليب التناقضات العربية العربية، وبعد مجازر بأيد عربية في أغلبيتها، في مقدمتها حرب المخيمات.
يواجه الفلسطينيون اليوم وضعا شبيها بما شهدته إبّان الانتفاضة، وإن يكن أكثر خطورة بما لا يقاس. ومعه يصبح النقاش عن المصالحة، أو الانتخابات التشريعية، أو تشكيل حكومة جديدة فارغاً من أي معنى، فهو ما زال يدور ويعود لإنتاج الحالة نفسها، أو إعادة استخدام الفصائل التي أوصلتنا إلى هذه الحالة من الضياع والتخبط. هو نقاش أجوف، يدور في حلقة مفرغة، لن يؤدي سوى إلى مزيد من التدهور، حيث لا يوجد من يوقف عجلة السقوط في الهاوية، فالوضع الفلسطيني اليوم في حالة عداء مع نفسه. نعم لا ننسى ولن ننسى الاحتلال الصهيوني لفلسطين مسببا، والإخوة الأعداء والأعداء الدوليين، وهؤلاء كثيرون، وكانوا موجودون دائماً للانقضاض، ولكن لا يستطيع الفلسطينيون، بعد اليوم، تبرير هزائمهم أمام عدوهم أو أعدائهم، حين صاروا هم العدو لأنفسهم: إما بالاستسلام لظواهر الفساد السياسي والمالي والإداري أو
الأوضاع صعبة ومعقدة، ولكنها لم تكن يوما على غير ذلك. هنالك أزمة، ولكن في كل أزمة فرصة لإيجاد مخرج. مخرج يليق بالفلسطينيين الذي قال عنهم زعيمهم الراحل ياسر عرفات إنهم شعب الجبارين، وهم فعلا كذلك. ربما أننا إزاء مخاض فلسطيني عسير ما قبل الولادة، ولكن الجنين لن يولد بمفرده، بل يحتاج إلى نفس عميق، ثم صرخة عالية تعطيه فرحة الحياة.
إن لم يولد الفلسطينيون الآن، سيقتلون أنفسهم في رحم فلسطين. هم اليوم أمام هذا الخيار الذي لا خيار آخر غيره.
مشروع وطني نضالي جديد يتجاوز التحديات، ضمن رؤية نضالية عصرية منفتحة، ومتعدّدة الأوجه، وعقلية سياسية جديدة، ترمي إلى سلة المهملات كل السلوكيات والممارسات التي أدت إلى ما هم عليه اليوم، وإلى غير رجعة، وأن يضعوا نصب أعينهم، سياسيين كانوا أم اقتصاديين أم أهل علم وقانون وثقافة وفنون، مستقبل أبنائهم وبناتهم وأحفادهم من بعدهم حتى الجيل العاشر لو احتاج الأمر كل هذا الوقت. وأن تكون الوحدة الوطنية نبراسهم، ومبدأ مقدسا يحكم علاقاتهم، مهما اشتدت الخلافات أو تعدّدت الرؤى. المخاض عسير، لكن الولادة لا بد ستحدث، وربما تكون فلسطين صاحبة البشارة لصحوة عربية أكثر تنظيما وجذريةً وبراعة.
مقالات أخرى
02 اغسطس 2024
22 يوليو 2024
13 ابريل 2024