31 أكتوبر 2024
عندما يكون المشهد العربي عبثيا
كم يلزمنا من العقلانية والموضوعية والواقعية، للتعاطي بنزاهةٍ مع سلسلة الوقائع والأحداث التي نشبت في المنطقة العربية في السنوات السبع الماضية، وأحدثت واقعا مأساويا، فيه دمار وانهيار دول وإتلاف مؤسسات. تمضي الأيام والشهور والأعوام، وآلة التدمير والتخريب لا تنفك تشتغل، وتتحرك بكل جنون وضراوة، وتقتلع أسباب الحياة والاستقرار. ومن يتأمل المشهد بحياد يصاب بالدهشة والذهول، جرّاء منطق العبث في مصائر مجتمعات عربية، من دون أن يلوح قريبا ما يؤشر إلى الاتجاه إلى حالة صحو أو تعقل، من شأنها أن تكبح هذا التسونامي الذي يأخذ كل يوم أبعادا أكثر مأساوية، خصوصا في ظل تعميم ثقافة الانتقام والتخوين والاتهام والتشفي والتناحر المذهبي وتصفية الحسابات الجيو-إستراتيجية والجيو- دينية. وفي ظل إشاعة مشاعر كراهية غير مسبوقة، نسفت أي إرادةٍ حسنةٍ لتحقيق نوع من التصالح والوئام بين مكونات المجموعة الواحدة. وعلى الرغم من قتامة الصورة واحتباس كل المسارات، واختناق كل المسالك، وانتشار لغة الموت والقتل والاستئصال، وتردّي الأوضاع بصورة صادم، فإن التحركات والمبادرات التي من المفروض أن يقدم عليها عقلاء بعض الدول التي لم تتعرض لويلات الحروب بدت أشبه بمهمة مستحيلة، بل استعصى الأمر وتعقد، وكأن تفكيك الدول وتشريد المجتمعات وتدمير البنيات التحتية قدر محتوم في المنطقة العربية، لا فكاك منه، وهو الذي لم يسبق في تاريخ العرب والمسلمين أن ابتلوا بمثله قرونا. هل تساءل العقلاء إلى أين تمضي المنطقة العربية؟
مؤكد أن الثورات في الأدبيات السياسية، ووفق تاريخ الفكر السياسي الإنساني، اندلعت أصلا لتغيير أوضاع مجتمعات، وتصحيح أخطاء، ووضع حد لمختلف أشكال الظلم والعسف
والاستبداد. ولم تأت هذه الثورات من فراغ، بل تحكمت في تشكلها شروط موضوعية وأسباب متداخلة، فيها ما هو سياسي وما هو اجتماعي وما هو اقتصادي وما هو ثقافي.. إلخ. ولكي تجد هذه الثورات طريقها إلى النجاح، كان طبيعيا أن تقودها طليعة ثورية، أو نخبة حاملة مشروعا واضحا وأهدافا محدّدة. وكان المثقفون والمفكرون هم إسمنت هذه الثورات ونواتها الصلبة. وتأسيسا على ذلك، أنتجت الثورة الفرنسية نموذجا جديدا للحكم، وعلاقات تعاقدية بين الحاكم والمحكوم، وتشريعات وقوانين ومؤسسات متقدمة، أحدثت انقلابا جذريا في مفهوم الحقوق والواجبات. وأرست الشعارات الخالدة، حرية عدالة مساواة، وهي الشعارات التي تعد عنوان قيم الجمهورية وأساسها.
ولكن عندما نضع الثورات في أكثر من بلد عربي تحت المجهر، نصطدم بمعطيات مرعبة، حيث تحولت الثورة إلى زلزال دك العمارة والتجارة والحضارة، وبدد البنيات والعلاقات وكل مظاهر الحياة، وخلف آلاف القتلى والجرحى والمعطوبين. ويزداد الحال فظاعة، بمشاهدة ملايين النازحين من أوطانهم تائهين، وتحولوا لاجئين ومشردين ومتسولين، حيث تغيب الكرامة الإنسانية بالمطلق.
لماذا حدث كل هذا التجريف والتهديم؟ أين ذهبت جهود عشرات المفكرين والعلماء وقادة الرأي والسياسة؟ منذ حملة نابوليون بونابرت على مصر عام 1798، والجهود تبذل لتخطي حالة الانحطاط والعجز، لكن وتيرة التحول كانت تتم ببطء وتثاقل. وكانت تجابه عملية التغيير تحديات الواقع العنيد، وتشلها طبيعة القيم والثقافات السائدة في البيئة العربية. من هنا، يبرز السؤال: أين اختفت الكتابات والتنظيرات التي كرست للنهضة أو اليقظة العربية، وما جدوى إهدار الطاقة والوقت لقراءة آليات اشتغال المجتمعات العربية والإسلامية، وعلاقتها بالحداثة والتحديث والديمقراطية والعقلانية والآخر والتراث، كما فعل مفكرون في شمال إفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة الخليج، والذين أصيب معظمهم بالإحباط واليأس، لأنهم وجدوا أنفسهم في قلب وضعية سيزيفية، أو كمن يصارع الطواحين الهوائية.
الأخطر في المسألة هو الاستخفاف بعامل الزمن، والكلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن وضعيةٍ كهذه، فكلما استحكمت الأزمات، وتعمقت مظاهر الانهيار واندثر العمران، ارتفعت الفاتورة، وأصبحت معها عملية إعادة الإعمار تمرينا صعبا ومرهقا بكل المقاييس، وكأنه كان لزاما على مجموعة دول أن تنهار، وأن تتلاشى فيها المؤسسات، وتتوقف فيها الخدمات والحياة، لكي تجد لها الدول الصاعدة ديمقراطيا واقتصاديا لها موطئ. ولكي تأخذ شكل الدولة التي تسودها القوانين والحقوق والواجبات.
تعدد الفاعلون والمتدخلون والنشطاء، وتشابكت الأجندة وتداخلت المصالح. وتبعا لذلك، انهارت الحواجز النفسية والأخلاقية بين العدوين، الحقيقي والافتراضي. وبات من الجائز أن يحارب الأخ أخاه بدون الإحساس بأي عقدة ذنبٍ، أو اللجوء إلى تأنيب الضمير، وهذه حجة دامغة على اختلال الأوضاع، وارتباك الاختيارات وضبابية التوجهات، وغموض المشاريع على كل المستويات. انتظر الشارع العربي، بقلق بالغ، أن يرى شمس الحقيقة تضيء المناطق المعتمة والحزينة من هذه الجغرافيا المسكونة بالمفارقات والتناقضات. انتشى ذات ثورة، عندما افترض أنها ستقيم حائطا عازلا بين الوهم والحقيقة، وستكفر عن سيئات الساسة وصانعي القرار، وستدفن إلى الأبد ما ارتكبوه من مخالفاتٍ واغتيالات لفرص التقدم والتطور.
كان الاعتقاد أن الفرقاء تطهروا من جنابة المزايدات ورجسها، لكن الأوطان ظلت سجينة
ندوبها وجراحها وآهاتها، وحافظت اللوبيات على سطوتها، ولم يزعزعها أحد، وأحزمة الفقر تزايدت وانتشرت في أكثر من بلد، ولم تنفع شعارات التغيير والانتقال الديمقراطي والكرامة والعدالة، وإشاعة ثقافة المواطنة، ولم تنجح الدساتير التي قدر لها أن تحرّر في الحد من شهوة أصحاب الامتيازات وجماعات الضغط وشهيتهم.
كان مأمولا أن تختفي من القاموس السياسي والإعلامي بعض الكلمات المهيجة والمستفزة، والاتهامات الكثيرة في كل الاتجاهات، لكنها استفحلت وتناسلت بوتيرة أكبر وأسرع، وألفينا بلاد العرب غارقةً في مستنقع من السلوكيات والممارسات المتخلفة وغير الديمقراطية وغير العقلانية، ولا قدرة لها على الإقناع بأنها تنتمي إلى خطابات حداثية. لأنه باختصار، من يلوكها ويجترها يفتقد إلى الرؤية الثاقبة، والنظرة الحصيفة.
فالذين تلاسنوا وتنازلوا بسيوف الحروب الكلامية في مجمل الاستحقاقات أثبتوا أن لا علاقة لهم بالحداثة والديمقراطية، وأكدوا أنهم ينتمون إلى "مليشيات المصالح الضيقة"، فنسجوا صورة سيئة وسلبية عن حقيقة الديمقراطية العربية.
أمام هذا المأزق التاريخي، يجب التسلح بمنتهى الشجاعة الفكرية والأخلاقية لتدشين مرحلة جديدة، تبدأ بإعلان قطيعة شاملة ومطلقة مع جملة من الممارسات والمقاربات والخطابات والحسابات، والشروع في عملية مصالحة جماعية بين مختلف مكونات الجغرافيا العربية، بعيدا عن أية حساسيات، ما سيساعد على فتح أوراش متنوعة ومشاريع واقعية، مقدمة لمواجهة التحديات التنموية وترجمة الرهانات الأساسية المتفق عليها، بخصوص بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
مؤكد أن الثورات في الأدبيات السياسية، ووفق تاريخ الفكر السياسي الإنساني، اندلعت أصلا لتغيير أوضاع مجتمعات، وتصحيح أخطاء، ووضع حد لمختلف أشكال الظلم والعسف
ولكن عندما نضع الثورات في أكثر من بلد عربي تحت المجهر، نصطدم بمعطيات مرعبة، حيث تحولت الثورة إلى زلزال دك العمارة والتجارة والحضارة، وبدد البنيات والعلاقات وكل مظاهر الحياة، وخلف آلاف القتلى والجرحى والمعطوبين. ويزداد الحال فظاعة، بمشاهدة ملايين النازحين من أوطانهم تائهين، وتحولوا لاجئين ومشردين ومتسولين، حيث تغيب الكرامة الإنسانية بالمطلق.
لماذا حدث كل هذا التجريف والتهديم؟ أين ذهبت جهود عشرات المفكرين والعلماء وقادة الرأي والسياسة؟ منذ حملة نابوليون بونابرت على مصر عام 1798، والجهود تبذل لتخطي حالة الانحطاط والعجز، لكن وتيرة التحول كانت تتم ببطء وتثاقل. وكانت تجابه عملية التغيير تحديات الواقع العنيد، وتشلها طبيعة القيم والثقافات السائدة في البيئة العربية. من هنا، يبرز السؤال: أين اختفت الكتابات والتنظيرات التي كرست للنهضة أو اليقظة العربية، وما جدوى إهدار الطاقة والوقت لقراءة آليات اشتغال المجتمعات العربية والإسلامية، وعلاقتها بالحداثة والتحديث والديمقراطية والعقلانية والآخر والتراث، كما فعل مفكرون في شمال إفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة الخليج، والذين أصيب معظمهم بالإحباط واليأس، لأنهم وجدوا أنفسهم في قلب وضعية سيزيفية، أو كمن يصارع الطواحين الهوائية.
الأخطر في المسألة هو الاستخفاف بعامل الزمن، والكلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن وضعيةٍ كهذه، فكلما استحكمت الأزمات، وتعمقت مظاهر الانهيار واندثر العمران، ارتفعت الفاتورة، وأصبحت معها عملية إعادة الإعمار تمرينا صعبا ومرهقا بكل المقاييس، وكأنه كان لزاما على مجموعة دول أن تنهار، وأن تتلاشى فيها المؤسسات، وتتوقف فيها الخدمات والحياة، لكي تجد لها الدول الصاعدة ديمقراطيا واقتصاديا لها موطئ. ولكي تأخذ شكل الدولة التي تسودها القوانين والحقوق والواجبات.
تعدد الفاعلون والمتدخلون والنشطاء، وتشابكت الأجندة وتداخلت المصالح. وتبعا لذلك، انهارت الحواجز النفسية والأخلاقية بين العدوين، الحقيقي والافتراضي. وبات من الجائز أن يحارب الأخ أخاه بدون الإحساس بأي عقدة ذنبٍ، أو اللجوء إلى تأنيب الضمير، وهذه حجة دامغة على اختلال الأوضاع، وارتباك الاختيارات وضبابية التوجهات، وغموض المشاريع على كل المستويات. انتظر الشارع العربي، بقلق بالغ، أن يرى شمس الحقيقة تضيء المناطق المعتمة والحزينة من هذه الجغرافيا المسكونة بالمفارقات والتناقضات. انتشى ذات ثورة، عندما افترض أنها ستقيم حائطا عازلا بين الوهم والحقيقة، وستكفر عن سيئات الساسة وصانعي القرار، وستدفن إلى الأبد ما ارتكبوه من مخالفاتٍ واغتيالات لفرص التقدم والتطور.
كان الاعتقاد أن الفرقاء تطهروا من جنابة المزايدات ورجسها، لكن الأوطان ظلت سجينة
كان مأمولا أن تختفي من القاموس السياسي والإعلامي بعض الكلمات المهيجة والمستفزة، والاتهامات الكثيرة في كل الاتجاهات، لكنها استفحلت وتناسلت بوتيرة أكبر وأسرع، وألفينا بلاد العرب غارقةً في مستنقع من السلوكيات والممارسات المتخلفة وغير الديمقراطية وغير العقلانية، ولا قدرة لها على الإقناع بأنها تنتمي إلى خطابات حداثية. لأنه باختصار، من يلوكها ويجترها يفتقد إلى الرؤية الثاقبة، والنظرة الحصيفة.
فالذين تلاسنوا وتنازلوا بسيوف الحروب الكلامية في مجمل الاستحقاقات أثبتوا أن لا علاقة لهم بالحداثة والديمقراطية، وأكدوا أنهم ينتمون إلى "مليشيات المصالح الضيقة"، فنسجوا صورة سيئة وسلبية عن حقيقة الديمقراطية العربية.
أمام هذا المأزق التاريخي، يجب التسلح بمنتهى الشجاعة الفكرية والأخلاقية لتدشين مرحلة جديدة، تبدأ بإعلان قطيعة شاملة ومطلقة مع جملة من الممارسات والمقاربات والخطابات والحسابات، والشروع في عملية مصالحة جماعية بين مختلف مكونات الجغرافيا العربية، بعيدا عن أية حساسيات، ما سيساعد على فتح أوراش متنوعة ومشاريع واقعية، مقدمة لمواجهة التحديات التنموية وترجمة الرهانات الأساسية المتفق عليها، بخصوص بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.